مقالات وآراء

وحيد حامد.. الباحث عن الحياة الحلم

د. أماني فؤاد 
فى حضن النيل الشامخ، بشُرفة فندق «حياة ريجنسى»، انتبهتُ لجلسته على إحدى الطاولات وأمامه الكثير من الملفات التى يقرأ فى بعضها، وأوراق أخرى بيضاء للكتابة، لا أعرف كيف امتد النيل بشخصه وأنا أتطلع إليه، أو كيف انساب هو بموجات النهر المكتنزة بالعطاء؟!.. كانت بجواره عصا يستند إليها حين يقف؛ ليُسلِّم على بعض من يأتون لتحيته أو التقاط صورة معه، تمنيتُ أن أفارق خجلى، ورغبتي فى ألا يقاطعه أحد ليتفرغ للكتابة، وأن أذهب لأقول له: إن كتاباته لم تزل هى العصا والوتد الذى يقف شامخًا ليقاوم القَمع والتخلف، وكيف أنها تجسِّد شخصية الإنسان المصرى البسيط الذى تنحصر أمنيات عيشه فى الكرامة والحرية والاكتفاء، دون عَوَز أو استقواء قوة من القوى على حقوقه، الإنسان الذى يتمنى العيش دون أن تحلِّق فوق رأسه كل هذه الطيور التى تقذفه بأشكال من الظلام والانتهازية والأطماع.
(وحيد حامد) كاتب مصر الكبير، الذى أشار (يوسف إدريس) بأصبعه ناحية مبنى ماسبيرو؛ ليقول له: «مكانك هناك فى هذا الصرح الكبير»، ربما أراد أن يقول له إنك تكتب بطريقة مشهدية، تكتب وكأن قلمك كاميرا تلتقط كل عناصر الكادر، ومفرداته الصغيرة التى تنقل نكهة الحياة المصرية، التى تتسم بزخم الحضور المميز، الحضور الذى يدلل على هُوَيَّة منفتحة ومتسامحة لا تميل إلى العنف فى أقصى اللحظات الحرجة.
الكاتب الذى تشتمل دوائر الصراع فى نصوصه على طبقات مختلفة من المجتمع، فتجسد التفاوت، ليس المادى فقط، بل الفكرى أيضا فى الحياة المصرية بمعناها المتسع، السيناريست الذى انتقد الحكومات وسُلطة الحزب الواحد والمؤسسات التى تسحق الفرد، انتقد الفكر الأصولى المتمثل فى تيارات الإسلام السياسى، كما انتقد سلبية الجماهير العريضة.
برع (وحيد حامد) فى نقْل وترسيخ فلسفة عميقة تستقر فى وعى مشاهدى أعماله، من خلال الموقف التلقائى الذى يجد الإنسان العادى نفسه بداخله، ففى فيلم «الإرهاب والكباب» لم يكن البطل يريد زعامة أو ساعيًا إلى عنف، لكنهم مجموعة من البشر انحصرت رغباتهم فى حياة إنسانية دون قهر ودون إهانة؛ ليحصل الفرد على خدماته وحقوقه الرئيسية من الدولة بمؤسساتها تحت مظلة من العدالة واحترام الآدمية. وأحسب أن قدْرًا كبيرا من المكانة – التى وصل إليها الكاتب وحيد حامد – تحققت حين نجح فى تهيئة منطقة وُسطى ومتأرجحة فى الصراعات التى قدَّمها فى نصوصه، مساحة من التوترات لا يمكن أن يغفلها الراصد لمعظم أفلامه ومسلسلاته، شخصيات تعرف نفْسها داخل مراحل السيناريو ذاته، مثل ما صَنَعَ فى فيلم «المنسى» أو «معالى الوزير»، فيتكشف لها الصراع الذى يؤرقها، منطقة عميقة تكشف عن فِكر كاتب ومفكِّر له رؤية ويتمسك بمجموعة من القيم التى تبقى على الإنسان إنسانا، كاتب يعرف أن الخير ليس خيرًا خالصًا، كما أن الشر أيضًا ليس شرًا مُطلَقًا، وأننا كبشر لسنا كقضبان القطار الممتدة المتوازية، لكن لكل منا تحولاته الفكرية والوجدانية ونقاط قوته وضَعفه، فهو كاتب الدراما الذى يدرك أن التعدد والمناظير المختلفة هى طبيعة الحياة.
أجاد التعبير عن الاختلاف وهو يكتب شخصياته، وتبنَّى منطق كل طرف فى كتابته، وإلى ما يستند إليه من أيديولوجيا، حتى إنه عندما كتب مسلسل «الجماعة» بجزئيه؛ تصوَّر البعض أنه روَّج لأفكارهم.. وأتصوَّر أنه قد قرأ مئات الكتب والمقالات ليتوفر على كتابة سيناريو هذا العمل، وبتلك الإجادة والمهارة فى نقْل أصولهم الفكرية، وعرْض تاريخ تنظيمهم، وتلك سمات الكاتب الباحث الذى يبحث عن الإحاطة والتميز؛ فيستهين بكل جهد يبذله من أجل التفرد.
استطاع وحيد حامد فى كتاباته أن يستعرض ألوان الطيف الفكرى المصرى، والقوى التى توجد به من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مثل ما جسَّد فى «طيور الظلام»، كما أنه فى هذا الفيلم جسَّد الفئة الكبيرة من الشعوب، التى تستسلم لأقدارها أو ما يُفعل فيها. كما استطاع أن يلتقط فئة المهمشين فى مجتمعاتنا؛ ففى «الهلفوت» تقف متعجبًا من نموذج البطل الذى يعيش على هامش مجتمع أسقطه من كل حساباته؛ فأفقده إنسانيته.
فى فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» يحرص البطل على حقه وحق ابنته فى الحب، حقه فى العمل بكرامة، حقه فى السِّلم المجتمعى دون تفاوت شاسع بين طبقات المجتمع، حقه فى الوفاء بالعهود، وينسج الكاتب كل هذا بطريقة إنسانية شديدة الشفافية فى فيلم «احكى يا شهرزاد»؛ يلتقط الكاتب مشاكل المرأة، ويستهين بالوجع والصدمة التى يمكن أن يعانيها المشاهد حين تتعرى أمامه حقائق الظلم والغبن الذى تواجهه المرأة فى المجتمعات الشرقية.
اجتمعت – حول نصوص وحيد حامد – كوكبة من أبرع فنانى مصر يتلقفونها، بداية من الممثلين والمخرجين، حتى صناع السينما والدراما كافة؛ وليُخرجوا نصوصه فى أجمل أعمال أَثْرَتْ تاريخ السينما المصرية منذ بدايته التى تربو على نصف قرن؛ فأثرى الوجدان المصرى والعربى، وأنزل لهم مرايا من كل صنف؛ ليروا الوجود من حولهم برؤية ذهن مفكر متَّقِد، وروح إنسانية عذبة. قد يرحل المبدعون ويغيِّرون عنوان إقامتهم، لكنهم باقون معنا بما شحذوا به نفوسنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى