د. أماني فؤاد تكتب ..الأبيض الثلجي، الذي يقطر عدَمًا
تلاتة، اتنين، واحد، مع الإشارة انطلقتُ أقرأُ النشرة: اقتحام مجموعات من الغاضبين لمبنى الكونجرس الأمريكي، رأس الرجُل الأسود -الذي اختنق- تتصدر الشاشة أمامي، فوقها حذاء رجُل البوليس لفَضِّ الشَّغب، لوهلة سافرت عيناي، استعادت دهْسَ سيارة مدرعة للشباب في أحداث يناير 2011، تطايرت حولي العيون التي خرجت من مآقيها، كانت تقطر دمًا وحسرة. حاضر جاثم يستدعي ماضيًا كارثيًّا.
بعد الهواء أحالني للتحقيق، وأنا في طريق عودتي إلى البيت؛ لمحت سيارته أمام مقرِّ من قفزوا يستولون على كل شيء وقَع تحت أيديهم، يتنازعون ويتشاتمون ويتقاتلون، يحرقون الأماكن، أُولُو الأمر، الناهون عن المنكر الآمرون بالمعروف.
في حوار أجريته وقتها، قال محاوري الفيلسوف: إن الجميع الآن كراقصة استربتيز، وأوضح أن الناس في الثورات يتخلَّون عن أقنعتهم تباعًا؛ فتتبدى العورات، فكما تُبرز الثورات أنقى ما في البشر؛ تُخرج مساوئَهم أيضا. الحلم في مواجهة الانتهازية، استوقفني للحظة قبل أن أنهي البرنامج، وقال: لا تحسبي أبدًا أن الحياة عادلة.
بعد ثلاثة أسابيع من التنحي كان الحلم قد تبدد، شعرت باختناق عانيته من قبل، حين أصرت أختي أن يغلقوا علينا كرة بلاستيكية كبيرة ويقذفون بنا في المسبح؛ لتتقاذفنا المياه بلا ضابط، في فوضى تَاهَ رأسانا بين قدمينا وذراعينا، لم ألتقط أنفاسي، وشملني أبيض عجيب. لقد تدافَع الجميع تحت الأضواء حتى استبد الظلام.
مشيتُ في الممرات الطويلة بعد انتهائي من نشرة التاسعة، فضَّلتُ ألَّا آخذ المصعد؛ قضاء دقائق مع ذاتي قد تخمد ألسنة النار التي اشتعلت برأسي، ووصلت حرائقها إلى وجهي. حين لمحته من بعيد؛ دون تحكُّم عادت جدراني تنِزُّ لظَى حرائقها، كيف أمكنه أن يخدعني طيلة عامين، فالرجُل الذي انفتح له قلبي ذات يوم، أراه يموت واقفًا أمامي كل يوم، لم ألحظ تلوُّنه إلى أن تكشَّفت علاقاته الثعبانية تباعًا، لن أقوى على مقابلته، ولا أريد.
قطعتُ ردهات طويلة لظنِّي أنه لن يمر بها، حين لمحني؛ اتجه نحوي ووقف، استبقى يدي في يده لبرهة فسحبتها، قال: أفتقدك وأشتاق للحديث معك، علَّق سريعًا: حتى هذه اللحظة لم تزل رأسك حاسرة!؟ أكمل: لكنك أنيقة كعهدي بك دائما. دون اهتمام أومأت برأسي؛ استكمل كلامه مباشرة يردد انجازاته في تطوير المؤسسة الإعلامية العريقة، الاستديوهات التي ستعيد له الوهج، الديكورات المبهرة، طلاء الجدران، تجديد دورات المياه، الاستعانة بعناصر شابة جديدة. وهو يتابع نواياه للتطوير، اقتربت أصابعه من يدي، وحدد – منفردًا، بطريقة لزجة – موعد اقتراننا، أظنه قال بعد أن يفرغ من مهمته، نظرتُ مستنكرة وتراجعتُ خطوة للخلف.
قررت أن أواجه، تقدمت وحاولت اصطناع الهدوء، قلت: هل تؤمن أن ما تفعله سيعيد للمؤسسة بريقها ثانية؟ حرِّرْ العقول التي تعمل معك لتفكر وتبدع، لعلك تكلِّف أحد المتخصصين ليبحث: لماذا تراكَم الصدأ على كل شيء؟ حتى الوجوه ذاتها والجباه، لماذا انطفأت الأعين، وصارت الأصوات رخوة؟ قُمْ بإزالة الحصير الملون الذي يفرش الممرات، صوِّب عينيك إلى إعادة البريق للعنصر البشري الذي يعمل، نَمِّ مهاراته وذائقته ومظهره، قم بإلغاء التوريث في مؤسسة تقوم بالأساس على الموهبة والكفاءة.. اذهبْ واستمع معهم لخُطب الرضا بالأقدار وحدود عورة المرأة والرجال!
أكملت مباشرة: لا علاقة لك بما أرتدي. لا تردد ثانية أنك تحبني، أو أننا قد نقترن، أنت لا تعرف الحب، عفوًا، تعرفه؛ تحب غرائزك، تُعجب بذاتك كلما لوَّنتَها حسْبَ المراحل، لا شيء مشترَك قد يجمعنا. حين نحب؛ نعشق من نحبهم على ماهم عليه. حين نسعى لتغييرهم؛ نحب فقط الصور التي في أذهاننا، لم أعد أحبك، بعض الهزائم نصر حزين.
لم يهتز له جفن، زَمَّ عينيه على عناده، قال: لم أحسبك غبية إلى هذا الحد، تجهلين قواعد اللعبة وتفتقرين إلى النضج! ما الصعوبة في أن تكوني كما أحب؟ لن أسمح لك بتلك النهاية، من تظنين نفسك لتحددين لي ماذا أفعل، وما هو الصواب؟ أمسك بذراعي وساقني أمامه بعنف فلم أمكِّنه؛ دفعني بقوة فارتطم رأسي بجدار، حين أبصرت عيناي؛ كانت حشودٌ، مئات من الرؤوس والأجساد من الثلوج البيضاء، سائرون، يتصايحون بنداءات لم أستوضحها، بَدَا هو الآخَر ثلجيًّا، يسوقهم بحركة ذراعيه وتشنُّج ملامحه العنيفة، حركة فكَّيه الغاضبة، صعد بهم نحو جبل جيري هَشٍّ، وهناك وقف يخطب دون أن تلتقط أذناي شيئًا، لم أستطع التقاط أنفاسي، غمرني نفْس الأبيض الثلجي الذي يقطر عدَمًا!