من يخلف بوتفليقة «المريض»؟
الجزائر على عتبة مرحلة جديدة
يثير الغموض حول الحالة الصحّيّة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، الموجود في المستشفى منذ ثلاثة أسابيع إثر جلطة دماغية، الكثير من التكهّنات في شأن استعداد البلاد لخوض مرحلة جديدة. وبات الكثيرون يعتقدون بأن حالة بوتفليقة حرجة، ويرجّح أن يكون أول رئيس من خارج الحرس القديم الذي قاد الثورة على الاستعمار الفرنسي.
لا يعرف عن حالة الرئيس بوتفليقة (76 عاماً)، إلا ما ورد في نشرة رسمية أفادت بأنه يتعافى من جلطة خفيفة، لكن كثيرين يعتقدون أن حالته حرجة ما دام لم يظهر الى العلن هذه المدة الطويلة. ونقلت مجلة «لو پوان» الفرنسية عن مصادر طبّيّة، أن بعض أعضائه الداخلية أصابها تلف شديد بسبب الجلطة، وقال رئيس تحرير صحيفة «جريدتي» الجزائرية، هشام عبود، إن المعلومات التي استقاها من مصادره تفيد بأنه في «غيبوبة كاملة».
وامتنع المسؤولون الجزائريون والفرنسيون عن التعليق، لكن الاعلام المحلّي، لمّح الى أن البلاد تستعدّ لعهد جديد.
ويأتي احتمال خروج بوتفليقة من الساحة السياسية، في الوقت الذي تموج فيه المنطقة بمظاهر إحياء التشدّد الإسلامي، التي شهدت الجزائر بعضاً منها في حادث احتجاز الرهائن في أن أميناس، في أيدي متشدّدين مرتبطين بالقاعدة في كانون الثاني (يناير) الماضي، لكن من غير المتوقّع أن تدخل البلاد في أزمة أمنيّة. فالجزائريون، الذين يخشون عودة عنف التسعينيّات، يثقون في قدرة المؤسّسة العسكرية على إدارة المرحلة الانتقالية؛ كما يبلغ احتياطي النقد الأجنبي في الجزائر مئتي مليار دولار، وهو ما يتيح لها مساحة لاسترضاء المحتجّين إذا لزم الأمر.
ومع تدهور صحّة الرئيس يخيّم جدل على الساحة السياسية في الجزائر حول خلافته المحتملة، بعد خروج أسماء مسؤولين سابقين إلى العلن، في وقت لا يزال فيه المعني «غائباً» في مستشفى فرنسي. وتتداول الصحافة الجزائرية أسماء عدة مرشّحين لخلافة بوتفليقة، أبرزهم الرئيس الأسبق الأمين زروال، ورؤساء الحكومة السابقون علي بن فليس، وعبد العزيز بلخادم، وأحمد أويحيى، ومولود حمروش، والوزير الحالي عبد المالك سلال، على رغم أنه بقيت قرابة سنة على انتهاء الدورة الرئاسية الحالية.
زروال يحظى باحترام
ويحظى الرئيس الأسبق زروال (1994 ـ 1999) باحترام لدى شريحة كبيرة من المواطنين والجيش، وعُرف عنه رفضه الاستجابة لأي دعوة رسمية من الرئيس بوتفليقة، بخلاف الرؤساء السابقين. وكشف مصدر عسكري لـ«الجزيرة نت» أن وفداً من الضباط التقى الرئيس زروال في بيته في ولاية باتنة، وأخبره أنه «الرجل الأنسب لهذه المرحلة». ولم يفصح الرجل صراحة عن موقفه، إلا أنه أكد «أنه لم يتوقّف عن خدمة الجزائر بالطرق السلميّة منذ مغادرته السلطة».
وتتّفق هذه الرؤية عند جناح من العسكريين مع رؤية نظراء لهم من المدنيّين، وهم من الأسرة الثوريّة أساساً. حيث زارت فيديرالية أبناء الشهداء زروال بعد يوم واحد من إعلان نقل بوتفليقة إلى باريس للعلاج، كما لفتت أيضاً زيارة رئيس الحكومة الأسبق والمجاهد رضا مالك لزروال أخيراً في بيته.
أما الاسم الآخر الذي بدأت «آلة الترويج» له تعمل بكثافة، فهو رئيس الحكومة الأسبق والمرشّح السابق لرئاسيّات العام 2004 علي بن فليس، فقد دعته جمعية أبناء الشهداء لمنطقة الجزائر الحرّة صراحة إلى الترشّح للانتخابات الرئاسية المبكرة، باعتباره الرجل الأجدر والأنسب. ومعلوم أن علي بن فليس كان مرشّح المؤسّسة العسكرية (قيادة الأركان) للرئاسة ضد بوتفليقة في العام 2004، قبل أن يخسرها عقب ترجيح المؤسّسة الأمنيّة كفّة بوتفليقة. وانتشرت بشكل لافت مجموعات على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تدعم علي بن فليس في هذه المرحلة، كمجموعة «نعم ومعاً لترشيح الأستاذ بن فليس»، وغيرها من المجموعات. ويروّج أن هذه المجموعات على علاقة بدوائر صنع القرار، وهدفها الأساسي تعبئة الجماهير لهذا الاستحقاق. وقال موقع «ألجيري باتريوتيك»، إن إحدى شركات الاعلانات العالمية قد أخذت صوراً لبن فليس، وقُدِّم لها طلب بطبع ملايين «البورتريهات»، تحضيراً للحملة الانتخابية؛ ويشاع عن الموقع أن مالكه إبن وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار، ولم يكذّب علي بن فليس هذا الخبر حتى الآن. ولا يستبعد بعضهم أن يستفيد بن فليس من التعاطف الشعبي هذه المرّة، نظير خسارته في الانتخابات الرئاسية العام 2004، إذ كانت التحليلات حينها تؤهّـله للعب دور متقدّم في السباق، وذهب بعضهم إلى حدّ الجزم بفوزه، قبل أن يُعلن عن انتصار بوتفليقة بنسبة 81 في المئة، ما اعتُبر وقتها «تزويراً فاضحاً» ضد وزير العدل الأسبق.
علي بن فليس يمكن أن تنظر إليه النخب الوطنية أيضاً بعين الأمل، كونه يقدّم في التحليل السياسي لخارطة المشهد الجزائري، كرمز لـ«رجل الدولة العصري»، المثقّف والمنفتح على العالم، بحكم تكوينه القانوني، فهو محام في الأصل، وكان نقيباً جهويّاً للمحامين في الشرق الجزائري، وشغل الوزارة والنيابة البرلمانية، وأشرف على ديوان رئاسة الجمهورية، ثم ختمها برئاسة الحكومة، فهو مطّلع على كلّ دهاليز السلطة التنفيذية وشؤون الحكم في البلاد.
وفي المقابل، يأتي اسم رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش (1989 ـ 1991). وعلى رغم التزامه الصمت منذ انسحابه من انتخابات العام 1999، فإن للرجل أصدقاء كثراً داخل المؤسّسة العسكرية، وفي حزب الغالبية جبهة التحرير الوطني. وتتحدّث أوساط مختلفة عن احتمال عقد صفقة سياسية بين حمروش ورئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور (1999 ـ 2000)، الذي كان قد أعلن صراحة عزمه على الترشّح.
ويُوصف حمروش (69 سنة) بمهندس الاصلاحات الاقتصاديّة والسياسيّة منذ منتصف الثمانينيّات، حينما كان أميناً عامّاً في رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، يقول عنه العارفون بمساره، إنّه كان من أشدّ المقرّبين للرئيس الشاذلي، هذا الأخير كان مبهوراً بحيويّته العجيبة، وقدرته الاستثنائية على إدارة الملفّات الشائكة، ما جعل الرئيس يمنحه كامل الصلاحيات للاشراف على تحضير مشروع «الاصلاحات الشاملة»، التي واجه بها الشاذلي المحافظين داخل الحزب الوحيد آنذاك، وقد نجح الأمين العام للرئاسة في الاختبار، وحينما شعر الرئيس الشاذلي بأن هناك من يعرقل مسار الاصلاحات التي جاء بها، لا سيما بعد أحداث 05/10/1988، كلّف حمروش رئاسة الحكومة، وهو الذي لم يكن يوماً ضمن الجهاز التنفيذي. لم تدم رئاسة مولود للحكومة سوى سنة ونصف السنة (1989ـ1991)، وأُرغم على الاستقالة في أعقاب التوتّرات الأمنيّة التي رافقت العصيان المدني الذي قرّرته جبهة الانقاذ في حزيران (يونيو) من العام 1991.
غادر مولود حمروش إذن السلطة في ريعان الشباب والعطاء، لأن الظروف السياسية فرضت التضحية به، كما حملته قبل ذلك إلى الحكومة خلفاً لقاصدي مرباح، لكن الرجل على غرار بن فليس، ظلّ محتفظاً بكلّ أسرار الدولة، بل مُمتنعاً عن أيّ حديث يخصّ المرحلة الموالية لخروجه من السلطة (1991ـ2013)، علماً بأنه ترشّح في العام 1999، وقد اعتبر بعضهم أن دخوله الانتخابات وقتها ضدّ «مرشّح الجيش»، دليلاً على تراجع علاقاته برجالات الحكم، وعدم معرفته الدقيقة بتوجّهات السلطة، ما يعني في رأيهم، أنه لم يعد ـ كما أشيع عنه ـ مرتبطاً بشكل وثيق مع صنّاع القرار؛ لكن بعضهم الآخر يهوّن من تلك القراءات، مشدّداً على أن حمروش هو ابن النظام، بل هو ابن المؤسّسة العسكرية تحديداً، لأنّه غادرها برتبة نقيب سنة 1984 فقط، متوجّهاً نحو الأمانة العامة للحكومة، مؤكّدين أنها تعرفه جيّداً مثلما يعرفها هو الآخر من الداخل، وقد نال شهادة الماجستير عن بحث أعدّه خلال وجوده في الجيش حول «الظاهرة العسكرية في أفريقيا».
ويعدّ حمروش من نماذج «النخبة الفكريّة» في الحكم خلال فترة الثمانينيّات، فهو مثقّف يتقن ثلاث لغات: العربية والفرنسية والإنكليزية، وسياسي محنّك، كما أنه مسيّر حكومي قويّ، وربّما شخصيّته الاستقلالية هي التي جعلت «صنّاع القرار» يخشون منه في فترات سابقة. والأكيد أن رئيس الحكومة الأسبق يملك مؤيّدين كثراً، خصوصاً من جهة الشرق الجزائري، وهو الآخر، لن يجد صعوبة في كسب تأييد القوى الاجتماعية المحسوبة على الأسرة الثورية. ويمكن أيضاً، وفاق رؤية بعضهم، أن يحظى حمروش بمساندة بعض الأحزاب والفئات المنتمية للتيار الديمقراطي، إذ يرون فيه مشروع «رئيس حداثي» بالنظر إلى تجربته السابقة في الحكم.
إسلامي أم علماني؟
يعتبر الأمين العام المخلوع لحزب جبهة التحرير الوطني عبد العزيز بلخادم، الشخصيّة الأكثر إثارة للجدل في الجزائر منذ سنوات عدة، صعد رئيساً للبرلمان في العام 1988 خلفاً لرابح بيطاط بعد أحداث 5 تشرين الأول (أكتوبر)، لكنّه رحل مع حلّ المجلس الشعبي الوطني بين دورتي الانتخابات الاشتراعية الملغاة، وقد كان ذلك بتدبير محكم من الجيش، حتى لا يكون «رئيساً موقّتاً» إثر إقالة الشاذلي بن جديد، كما ينصّ الدستور الجزائري!
شاع منذئذ أن عبد العزيز بلخادم غير مرغوب فيه من طرف صقور المؤسّسة الأمنيّة، التي لا ترتاح لميولاته الفكريّة والثقافيّة والأيديولوجية، وتزعجها كثيراً تلك «اللحية الخفيفة» التي يتشبّث بها، حتى تحوّلت الى مصدر ريبة وظنون لديها! تعزّزت فيما بعد تلك التخمينات بفعل المواقف السياسية التي أبداها الرجل لاحقاً، إذ وقف دوماً في الجهة المقابلة لخيارات السلطة، فعارض وقف المسار الانتخابي، وحلّ الجبهة الإسلامية للانقاذ، وكان من دعاة المصالحة الوطنية وضدّ سياسة الكلّ الأمني.
هكذا إذن ظلّ الرئيس الأسبق للبرلمان مُبعداً، بل مهّشماً، بسبب مواقفه السياسية حتى مجيء الرئيس الحالي بوتفليقة إلى الحكم في 16/04/1999، حيث رافقه مجدّداً في السلطة طوال 12 سنة، تحوّل فيها من وزير خارجية إلى وزير دولة ممثّـلاً شخصياً لرئيس الجمهورية، وذكرت دوائر إعلامية وسياسية عديدة، أن بلخادم كان المرشّح الأساسي لرئاسة حكومة بوتفليقة الأولى، لكنه اصطدم بتصلّب الجيش الرافض لوجوده في هذا الموقع، قبل أن تواتيه الظروف لاحقاً، ويكلّفه الرئيس الاشراف على مقاليد الحكومة 2006 ـ 2008. أراد بوتفليقة استعمال بلخادم في تلميع مشروع المصالحة الوطنية، ومدّ جسور تواصل مع المحافظين والإسلاميين الذين تربطهم به صلات عميقة، وأيضاً ليفتح من خلاله فضاءات لاستئناف العلاقات العربية في تلك السنوات الأولى من حكمه، كونه ينزع إلى التوجّه الوطني العروبي القومي.
ظلّ هذا الوضع المميّز قائماً إلى غاية أيلول (سبتمبر) من العام 2012، حينما ودّع بلخادم الحكومة ضمن قائمة الوزراء المعفيّين من مناصبهم، ولم يكن وحده في ذلك الابعاد، حيث رافقه الوصيف أحمد أويحيى، ما طرح أكثر من علامة استفهام حول مقاصده، وما يمكن أن يقوم به فيما بعد، لأن الرجل كان يطمع في رئاسة الحكومة بعد تتويج جبهة التحرير الوطني بالأغلبية المطلقة، في تشريعيّات 10/05/2012، فوجد نفسه ـ في تشكيلة حكومية مفاجئة ـ خارج الخدمة، وتوالت الانكسارات بسحب البساط من تحت أرجله داخل الحزب، فأصبح مجرّداً من كلّ الأدوات، وبات «حلم الرئاسة» الذي راوده منذ نال رضا بوتفليقة في مهبّ الريح.
السؤال الذي بقي مطروحاً من دون إجابات حاسمة إلى الآن، يتعلق بإخراج بلخادم من الباب الضيّق بتلك الطريقة الدراماتيكيّة، فإن كان الرجل محلّ ثقة لدى الرئيس وغير مرغوب فيه لدى الجيش، فمن استهدفه طالما أنّه لا يشكّل خطراً فعليّاً؟
من هنا لا يستبعد مراقبون في الجزائر أن يشكّل بلخادم (69 سنة) «مرشّحاً مثاليّاً» لخلافة بوتفليقة، يمكن للنظام أن يستثمر في سمعته الوطنية، ويغري عموم الشعب بجاذبيّة الصورة النمطيّة السائدة عنه في المجتمع كمسؤول متديّن، مُستفيداً من التقارب التاريخي مع الإسلاميين واتجاهه الوسطي، فهو إسلامي من منظور العلمانيين، وعلماني محافظ لدى الإسلاميين.
إذن الانتخابات المرتقبة، إن جرت، فستكون في جوهرها «لعبة مغلقة»، بين بدائل تمثّل وجوهاً لـ«عملة واحدة» >