قرأتُ في تاريخ الحروب الصليبية
هكذا خاطب الفيلسوف اليوناني والمؤرخ جورج ترابيزونتيوس السلطان محمد الفاتح، بعد أكثر من عقدين على فتح العثمانيين القسطنطينية، مؤكدا المفارقة الكبيرة بين المدينة التي انتقلت السيادة عليها من البيزنطيين إلى العثمانيين في منتصف القرن 15، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ومرجعيتها الدينية “الفاتيكان”.
ويعود تاريخ الانفصال بين روما والقسطنطينية لأكثر من ألف عام، عندما انشطرت الإمبراطورية المسيحية نهاية القرن الرابع الميلادي إلى شرقية وغربية، وبينما عاشت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) حتى فتح القسطنطينية على يد العثمانيين في 1453 من الميلاد؛ تفكك الشطر الغربي سريعا منذ أوائل القرن الخامس الميلادي، وانهار نتيجة الهجرة وغزو القبائل الجرمانية.
وشهدت بداية القرن 13 من الميلاد قيام الحملة الصليبية الرابعة، بهدف انتزاع القدس من أيدي المسلمين في زمن الحروب الصليبية، لكن وجهة المقاتلين الصليبيين تحولت إلى العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)، وقام الجنود الصليبيون بنهب المدينة، وقتل العديد من سكانها، مما فاقم “الانشقاق العظيم” بين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (وعاصمتها القسطنطينية) والكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومقرها “الفاتيكان”.
وأسهمت “الحملة الصليبية الرابعة” على القسطنطينية (الأرثوذكسية آنذاك) في إضعاف العاصمة البيزنطية المزدهرة، وعانت لاحقا من عزلة شديدة، وإفلاس اقتصادي، وانخفض سكانها لأقل من 40 ألف نسمة فقط، وأصبحت أجزاء من المدينة العريقة خاوية على عروشها، مما سهل فتحها على أيدي العثمانيين في النهاية.
آلام الفاتيكان
في عظته الأسبوعية الأحد الماضي، علق بابا الفاتيكان فرانسيس على قرار تركيا تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد قائلا “البحار تأخذني بأفكاري إلى أماكن بعيدة، أفكر في آيا صوفيا، إني حزين جدا”.
واستدعى تصريح بابا الفاتيكان للأذهان سلسلة من مواقف الفاتيكان تجاه إسطنبول؛ ففي عام 2001 عبّر البابا يوحنا بولس الثاني عن حزنه على أحداث الحملة الصليبية الرابعة التي دعت إليها البابوية الكاثوليكية، وقال “إنه لأمر مأساوي أن المهاجمين انقلبوا ضد إخوانهم في الإيمان” حسب تعبيره.
وفي عام 2004، بينما كان “بطريريك القسطنطينية” بارثولوميو الأول يزور الفاتيكان، أعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن اعتذاره عن مذابح الحملة الصليبية الرابعة تجاه أتباع الكنيسة الأرثوذكسية.
وفي مؤلفه الشهير “تاريخ الحروب الصليبية” (1954)، كتب مؤرخ القرون الوسطى البارز ستيفن رونسيمان “لم تكن هناك جريمة ضد الإنسانية أكبر من الحملة الصليبية الرابعة”.
ودعا بابا الفاتيكان إينوسنت الثالث إلى الحملة الصليبية الرابعة (1202–1204)، التي كان أعلن عنها كحملة لانتزاع القدس من المسلمين، وضرب السلطنة الأيوبية في مصر، لكن المصاعب الاقتصادية والأحداث السياسية التي مرت بها حوّلت وجهتها للقسطنطينية التي عاث الصليبيون فيها فسادا.
وفي طريق الحملة إلى الشرق، وبسبب الإنفاق الحربي الكبير، حاصر الصليبيون مدينة زادار (الواقعة في كرواتيا حاليا) ونهبوها رغم أنها كاثوليكية، مما أثار غضب البابا الذي دعا إلى الحملة، لكنه لم يعترض بالطريقة نفسها على غزو القسطنطينية أملا في غنائم مالية وعسكرية من بيزنطة تدعم السير إلى القدس، حسب المصادر التاريخية.
ونهبت الحملة الصليبية العاصمة البيزنطية، لكن لم تحصل على دعم عسكري، وآثر كثير من الجنود التمتع بثروات المدينة المنهوبة، ولم يكملوا الطريق إلى القدس، وفشلت الحملة في مهمتها الأساسية، لكن الضحية هذه المرة كانت الإمبراطورية البيزنطية، التي انقسمت لـ3 مناطق: طرابزون، وإبيروس، ونيقية، التي استعادت القسطنطينية مرة أخرى في 1261.
وكانت القسطنطينية في أوجها موطنا لنحو نصف مليون نسمة، وجرى حمايتها بـ13 ميلا من الجدران الثلاثية القوية، وكانت مركزا مزدهرا سيطر على الطرق التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود قبل العدوان الصليبي عليها. وللسيطرة على المدينة بالقوة، احتاج الصليبيون أولاً إلى عبور مضيق البوسفور بنحو 200 سفينة، ونقلت الخيول، واصطف الجنود على طول الشاطئ، شمال ضاحية غالاتا.
وحسب مصادر تاريخية، فقد فر الجيش البيزنطي، وتبعه الصليبيون الذين هاجموا برج غالاتا، وفتحوا السلسلة الضخمة التي منعت الوصول إلى القرن الذهبي، ودخل أسطول مدينة البندقية، ولم تصمد دفاعات القسطنطينية طويلا أمام جيش صليبي متفوق عددا وقوة.
آيا صوفيا
لمدة 3 أيام بعد دخول الصليبيين القسطنطينية، تمت سرقة وتدمير ونهب العديد من القطع الفنية اليونانية والرومانية والبيزنطية، ونهبت ممتلكات كثير من السكان. ورغم تهديد البابا بالحرمان دمّر الصليبيون كنائس وأديرة المدينة ونهبوها، واقتسموا الغنائم مقاتلو البندقية والفرسان الصليبيون الآخرون.
وفي تأريخه للحدث، كتب المؤرخ الأميركي من أصل يوناني المختص في التاريخ البيزنطي سبروس فريونيس “دمر الجنود اللاتينيون أعظم مدينة في أوروبا بطريقة لا توصف، ولـ3 أيام قتلوا واغتصبوا ونهبوا ودمروا على نطاق لم يتصوره المخربون والقوطيون القدامى”.
واعتبر فريونيس في كتابه “بيزنطة وأوروبا” أن الجنود فوجئوا بثروات هائلة لم يتوقعوها، ورغم تقدير سكان البندقية للفن وإنقاذهم العديد من القطع الفنية، فإن الفرنسيين وغيرهم خرّبوا العديد من القطع الفنية، بما في ذلك “آيا صوفيا”، حيث عبر الصليبيون عن كراهيتهم للإغريق عبر “تدنيس أعظم كنيسة في العالم المسيحي، وحطموا الأيقونات الفضية المسيحية والكتب المقدسة في آيا صوفيا، وأجلسوا على العرش البطريركي عاهرة، وهم يحتسون الخمر في أواني الكنيسة المقدسة”.
ويضيف فريونيس “كان اليونانيون مقتنعين بأنه حتى الأتراك -لو استولوا على المدينة- لن يكونوا قاسيين مثل المسيحيين اللاتينيين”، وأدت هزيمة البيزنطيين أمام الزحف الصليبي، كما يقول المؤرخ الأميركي من أصل يوناني، إلى تسريع الانحطاط السياسي. “وهكذا، أسفرت الحملة الصليبية الرابعة والحركة الصليبية عموما، في نهاية المطاف، عن انتصار الإسلام، وهي النتيجة التي كانت عكس أهدافها الأصلية تماما” حسب تعبيره.
وعندما عرف البابا إنوسنت الثالث بما حدث أبدى انزعاجه الشديد، واستنكر وحشية المقاتلين الصليبيين الذين “استخدموا سيوفهم لغاياتهم الخاصة بدل نصرة أهداف يسوع المسيح وحرب الوثنيين”.
ورغم تنديد البابا بما حدث، فإن المؤرخين يعتبرون أنه قبل الوضع الجديد، وأقر الاستيلاء على خزائن القسطنطينية لصالح منافستها روما، واعترف بأساقفة غربيين كاثوليك على المناطق الأرثوذكسية الواقعة في الأراضي البيزنطية.
“مقر الإمبراطورية الرومانية هو القسطنطينية؛ لذلك أنت الإمبراطور الشرعي للرومان، وإمبراطور الرومان هو أيضا إمبراطور الأرض كلها”.
هكذا خاطب الفيلسوف اليوناني والمؤرخ جورج ترابيزونتيوس السلطان محمد الفاتح، بعد أكثر من عقدين على فتح العثمانيين القسطنطينية، مؤكدا المفارقة الكبيرة بين المدينة التي انتقلت السيادة عليها من البيزنطيين إلى العثمانيين في منتصف القرن 15، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ومرجعيتها الدينية “الفاتيكان”.
ويعود تاريخ الانفصال بين روما والقسطنطينية لأكثر من ألف عام، عندما انشطرت الإمبراطورية المسيحية نهاية القرن الرابع الميلادي إلى شرقية وغربية، وبينما عاشت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) حتى فتح القسطنطينية على يد العثمانيين في 1453 من الميلاد؛ تفكك الشطر الغربي سريعا منذ أوائل القرن الخامس الميلادي، وانهار نتيجة الهجرة وغزو القبائل الجرمانية.
وشهدت بداية القرن 13 من الميلاد قيام الحملة الصليبية الرابعة، بهدف انتزاع القدس من أيدي المسلمين في زمن الحروب الصليبية، لكن وجهة المقاتلين الصليبيين تحولت إلى العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)، وقام الجنود الصليبيون بنهب المدينة، وقتل العديد من سكانها، مما فاقم “الانشقاق العظيم” بين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (وعاصمتها القسطنطينية) والكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومقرها “الفاتيكان”.
وأسهمت “الحملة الصليبية الرابعة” على القسطنطينية (الأرثوذكسية آنذاك) في إضعاف العاصمة البيزنطية المزدهرة، وعانت لاحقا من عزلة شديدة، وإفلاس اقتصادي، وانخفض سكانها لأقل من 40 ألف نسمة فقط، وأصبحت أجزاء من المدينة العريقة خاوية على عروشها، مما سهل فتحها على أيدي العثمانيين في النهاية.
آلام الفاتيكان
في عظته الأسبوعية الأحد الماضي، علق بابا الفاتيكان فرانسيس على قرار تركيا تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد قائلا “البحار تأخذني بأفكاري إلى أماكن بعيدة، أفكر في آيا صوفيا، إني حزين جدا”.
واستدعى تصريح بابا الفاتيكان للأذهان سلسلة من مواقف الفاتيكان تجاه إسطنبول؛ ففي عام 2001 عبّر البابا يوحنا بولس الثاني عن حزنه على أحداث الحملة الصليبية الرابعة التي دعت إليها البابوية الكاثوليكية، وقال “إنه لأمر مأساوي أن المهاجمين انقلبوا ضد إخوانهم في الإيمان” حسب تعبيره.
وفي عام 2004، بينما كان “بطريريك القسطنطينية” بارثولوميو الأول يزور الفاتيكان، أعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن اعتذاره عن مذابح الحملة الصليبية الرابعة تجاه أتباع الكنيسة الأرثوذكسية.
وفي مؤلفه الشهير “تاريخ الحروب الصليبية” (1954)، كتب مؤرخ القرون الوسطى البارز ستيفن رونسيمان “لم تكن هناك جريمة ضد الإنسانية أكبر من الحملة الصليبية الرابعة”.
ودعا بابا الفاتيكان إينوسنت الثالث إلى الحملة الصليبية الرابعة (1202–1204)، التي كان أعلن عنها كحملة لانتزاع القدس من المسلمين، وضرب السلطنة الأيوبية في مصر، لكن المصاعب الاقتصادية والأحداث السياسية التي مرت بها حوّلت وجهتها للقسطنطينية التي عاث الصليبيون فيها فسادا.
وفي طريق الحملة إلى الشرق، وبسبب الإنفاق الحربي الكبير، حاصر الصليبيون مدينة زادار (الواقعة في كرواتيا حاليا) ونهبوها رغم أنها كاثوليكية، مما أثار غضب البابا الذي دعا إلى الحملة، لكنه لم يعترض بالطريقة نفسها على غزو القسطنطينية أملا في غنائم مالية وعسكرية من بيزنطة تدعم السير إلى القدس، حسب المصادر التاريخية.
ونهبت الحملة الصليبية العاصمة البيزنطية، لكن لم تحصل على دعم عسكري، وآثر كثير من الجنود التمتع بثروات المدينة المنهوبة، ولم يكملوا الطريق إلى القدس، وفشلت الحملة في مهمتها الأساسية، لكن الضحية هذه المرة كانت الإمبراطورية البيزنطية، التي انقسمت لـ3 مناطق: طرابزون، وإبيروس، ونيقية، التي استعادت القسطنطينية مرة أخرى في 1261.
وكانت القسطنطينية في أوجها موطنا لنحو نصف مليون نسمة، وجرى حمايتها بـ13 ميلا من الجدران الثلاثية القوية، وكانت مركزا مزدهرا سيطر على الطرق التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود قبل العدوان الصليبي عليها. وللسيطرة على المدينة بالقوة، احتاج الصليبيون أولاً إلى عبور مضيق البوسفور بنحو 200 سفينة، ونقلت الخيول، واصطف الجنود على طول الشاطئ، شمال ضاحية غالاتا.
وحسب مصادر تاريخية، فقد فر الجيش البيزنطي، وتبعه الصليبيون الذين هاجموا برج غالاتا، وفتحوا السلسلة الضخمة التي منعت الوصول إلى القرن الذهبي، ودخل أسطول مدينة البندقية، ولم تصمد دفاعات القسطنطينية طويلا أمام جيش صليبي متفوق عددا وقوة.
آيا صوفيا
لمدة 3 أيام بعد دخول الصليبيين القسطنطينية، تمت سرقة وتدمير ونهب العديد من القطع الفنية اليونانية والرومانية والبيزنطية، ونهبت ممتلكات كثير من السكان. ورغم تهديد البابا بالحرمان دمّر الصليبيون كنائس وأديرة المدينة ونهبوها، واقتسموا الغنائم مقاتلو البندقية والفرسان الصليبيون الآخرون.
وفي تأريخه للحدث، كتب المؤرخ الأميركي من أصل يوناني المختص في التاريخ البيزنطي سبروس فريونيس “دمر الجنود اللاتينيون أعظم مدينة في أوروبا بطريقة لا توصف، ولـ3 أيام قتلوا واغتصبوا ونهبوا ودمروا على نطاق لم يتصوره المخربون والقوطيون القدامى”.
واعتبر فريونيس في كتابه “بيزنطة وأوروبا” أن الجنود فوجئوا بثروات هائلة لم يتوقعوها، ورغم تقدير سكان البندقية للفن وإنقاذهم العديد من القطع الفنية، فإن الفرنسيين وغيرهم خرّبوا العديد من القطع الفنية، بما في ذلك “آيا صوفيا”، حيث عبر الصليبيون عن كراهيتهم للإغريق عبر “تدنيس أعظم كنيسة في العالم المسيحي، وحطموا الأيقونات الفضية المسيحية والكتب المقدسة في آيا صوفيا، وأجلسوا على العرش البطريركي عاهرة، وهم يحتسون الخمر في أواني الكنيسة المقدسة”.
ويضيف فريونيس “كان اليونانيون مقتنعين بأنه حتى الأتراك -لو استولوا على المدينة- لن يكونوا قاسيين مثل المسيحيين اللاتينيين”، وأدت هزيمة البيزنطيين أمام الزحف الصليبي، كما يقول المؤرخ الأميركي من أصل يوناني، إلى تسريع الانحطاط السياسي. “وهكذا، أسفرت الحملة الصليبية الرابعة والحركة الصليبية عموما، في نهاية المطاف، عن انتصار الإسلام، وهي النتيجة التي كانت عكس أهدافها الأصلية تماما” حسب تعبيره.
وعندما عرف البابا إنوسنت الثالث بما حدث أبدى انزعاجه الشديد، واستنكر وحشية المقاتلين الصليبيين الذين “استخدموا سيوفهم لغاياتهم الخاصة بدل نصرة أهداف يسوع المسيح وحرب الوثنيين”.
ورغم تنديد البابا بما حدث، فإن المؤرخين يعتبرون أنه قبل الوضع الجديد، وأقر الاستيلاء على خزائن القسطنطينية لصالح منافستها روما، واعترف بأساقفة غربيين كاثوليك على المناطق الأرثوذكسية الواقعة في الأراضي البيزنطية.
هكذا خاطب الفيلسوف اليوناني والمؤرخ جورج ترابيزونتيوس السلطان محمد الفاتح، بعد أكثر من عقدين على فتح العثمانيين القسطنطينية، مؤكدا المفارقة الكبيرة بين المدينة التي انتقلت السيادة عليها من البيزنطيين إلى العثمانيين في منتصف القرن 15، والإمبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها روما ومرجعيتها الدينية “الفاتيكان”.
ويعود تاريخ الانفصال بين روما والقسطنطينية لأكثر من ألف عام، عندما انشطرت الإمبراطورية المسيحية نهاية القرن الرابع الميلادي إلى شرقية وغربية، وبينما عاشت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) حتى فتح القسطنطينية على يد العثمانيين في 1453 من الميلاد؛ تفكك الشطر الغربي سريعا منذ أوائل القرن الخامس الميلادي، وانهار نتيجة الهجرة وغزو القبائل الجرمانية.
وشهدت بداية القرن 13 من الميلاد قيام الحملة الصليبية الرابعة، بهدف انتزاع القدس من أيدي المسلمين في زمن الحروب الصليبية، لكن وجهة المقاتلين الصليبيين تحولت إلى العاصمة البيزنطية (القسطنطينية)، وقام الجنود الصليبيون بنهب المدينة، وقتل العديد من سكانها، مما فاقم “الانشقاق العظيم” بين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (وعاصمتها القسطنطينية) والكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومقرها “الفاتيكان”.
وأسهمت “الحملة الصليبية الرابعة” على القسطنطينية (الأرثوذكسية آنذاك) في إضعاف العاصمة البيزنطية المزدهرة، وعانت لاحقا من عزلة شديدة، وإفلاس اقتصادي، وانخفض سكانها لأقل من 40 ألف نسمة فقط، وأصبحت أجزاء من المدينة العريقة خاوية على عروشها، مما سهل فتحها على أيدي العثمانيين في النهاية.
آلام الفاتيكان
في عظته الأسبوعية الأحد الماضي، علق بابا الفاتيكان فرانسيس على قرار تركيا تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد قائلا “البحار تأخذني بأفكاري إلى أماكن بعيدة، أفكر في آيا صوفيا، إني حزين جدا”.
واستدعى تصريح بابا الفاتيكان للأذهان سلسلة من مواقف الفاتيكان تجاه إسطنبول؛ ففي عام 2001 عبّر البابا يوحنا بولس الثاني عن حزنه على أحداث الحملة الصليبية الرابعة التي دعت إليها البابوية الكاثوليكية، وقال “إنه لأمر مأساوي أن المهاجمين انقلبوا ضد إخوانهم في الإيمان” حسب تعبيره.
وفي عام 2004، بينما كان “بطريريك القسطنطينية” بارثولوميو الأول يزور الفاتيكان، أعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن اعتذاره عن مذابح الحملة الصليبية الرابعة تجاه أتباع الكنيسة الأرثوذكسية.
وفي مؤلفه الشهير “تاريخ الحروب الصليبية” (1954)، كتب مؤرخ القرون الوسطى البارز ستيفن رونسيمان “لم تكن هناك جريمة ضد الإنسانية أكبر من الحملة الصليبية الرابعة”.
ودعا بابا الفاتيكان إينوسنت الثالث إلى الحملة الصليبية الرابعة (1202–1204)، التي كان أعلن عنها كحملة لانتزاع القدس من المسلمين، وضرب السلطنة الأيوبية في مصر، لكن المصاعب الاقتصادية والأحداث السياسية التي مرت بها حوّلت وجهتها للقسطنطينية التي عاث الصليبيون فيها فسادا.
وفي طريق الحملة إلى الشرق، وبسبب الإنفاق الحربي الكبير، حاصر الصليبيون مدينة زادار (الواقعة في كرواتيا حاليا) ونهبوها رغم أنها كاثوليكية، مما أثار غضب البابا الذي دعا إلى الحملة، لكنه لم يعترض بالطريقة نفسها على غزو القسطنطينية أملا في غنائم مالية وعسكرية من بيزنطة تدعم السير إلى القدس، حسب المصادر التاريخية.
ونهبت الحملة الصليبية العاصمة البيزنطية، لكن لم تحصل على دعم عسكري، وآثر كثير من الجنود التمتع بثروات المدينة المنهوبة، ولم يكملوا الطريق إلى القدس، وفشلت الحملة في مهمتها الأساسية، لكن الضحية هذه المرة كانت الإمبراطورية البيزنطية، التي انقسمت لـ3 مناطق: طرابزون، وإبيروس، ونيقية، التي استعادت القسطنطينية مرة أخرى في 1261.
وكانت القسطنطينية في أوجها موطنا لنحو نصف مليون نسمة، وجرى حمايتها بـ13 ميلا من الجدران الثلاثية القوية، وكانت مركزا مزدهرا سيطر على الطرق التجارية من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود قبل العدوان الصليبي عليها. وللسيطرة على المدينة بالقوة، احتاج الصليبيون أولاً إلى عبور مضيق البوسفور بنحو 200 سفينة، ونقلت الخيول، واصطف الجنود على طول الشاطئ، شمال ضاحية غالاتا.
وحسب مصادر تاريخية، فقد فر الجيش البيزنطي، وتبعه الصليبيون الذين هاجموا برج غالاتا، وفتحوا السلسلة الضخمة التي منعت الوصول إلى القرن الذهبي، ودخل أسطول مدينة البندقية، ولم تصمد دفاعات القسطنطينية طويلا أمام جيش صليبي متفوق عددا وقوة.
آيا صوفيا
لمدة 3 أيام بعد دخول الصليبيين القسطنطينية، تمت سرقة وتدمير ونهب العديد من القطع الفنية اليونانية والرومانية والبيزنطية، ونهبت ممتلكات كثير من السكان. ورغم تهديد البابا بالحرمان دمّر الصليبيون كنائس وأديرة المدينة ونهبوها، واقتسموا الغنائم مقاتلو البندقية والفرسان الصليبيون الآخرون.
وفي تأريخه للحدث، كتب المؤرخ الأميركي من أصل يوناني المختص في التاريخ البيزنطي سبروس فريونيس “دمر الجنود اللاتينيون أعظم مدينة في أوروبا بطريقة لا توصف، ولـ3 أيام قتلوا واغتصبوا ونهبوا ودمروا على نطاق لم يتصوره المخربون والقوطيون القدامى”.
واعتبر فريونيس في كتابه “بيزنطة وأوروبا” أن الجنود فوجئوا بثروات هائلة لم يتوقعوها، ورغم تقدير سكان البندقية للفن وإنقاذهم العديد من القطع الفنية، فإن الفرنسيين وغيرهم خرّبوا العديد من القطع الفنية، بما في ذلك “آيا صوفيا”، حيث عبر الصليبيون عن كراهيتهم للإغريق عبر “تدنيس أعظم كنيسة في العالم المسيحي، وحطموا الأيقونات الفضية المسيحية والكتب المقدسة في آيا صوفيا، وأجلسوا على العرش البطريركي عاهرة، وهم يحتسون الخمر في أواني الكنيسة المقدسة”.
ويضيف فريونيس “كان اليونانيون مقتنعين بأنه حتى الأتراك -لو استولوا على المدينة- لن يكونوا قاسيين مثل المسيحيين اللاتينيين”، وأدت هزيمة البيزنطيين أمام الزحف الصليبي، كما يقول المؤرخ الأميركي من أصل يوناني، إلى تسريع الانحطاط السياسي. “وهكذا، أسفرت الحملة الصليبية الرابعة والحركة الصليبية عموما، في نهاية المطاف، عن انتصار الإسلام، وهي النتيجة التي كانت عكس أهدافها الأصلية تماما” حسب تعبيره.
وعندما عرف البابا إنوسنت الثالث بما حدث أبدى انزعاجه الشديد، واستنكر وحشية المقاتلين الصليبيين الذين “استخدموا سيوفهم لغاياتهم الخاصة بدل نصرة أهداف يسوع المسيح وحرب الوثنيين”.
ورغم تنديد البابا بما حدث، فإن المؤرخين يعتبرون أنه قبل الوضع الجديد، وأقر الاستيلاء على خزائن القسطنطينية لصالح منافستها روما، واعترف بأساقفة غربيين كاثوليك على المناطق الأرثوذكسية الواقعة في الأراضي البيزنطية.