مقالات وآراء
جناحان لسعيد الكفراوي يحلِّقان في الزمان والبشر
د. أماني فؤاد
لا أستطيع تخيل أن الأستاذ سعيد الكفراوي، المبدع النبيل، سيكف عن الحكايات المدهشة رغم رحيله عن عالمنا، فهو والقَصُّ كيان واحد قد تداخلا واتَّحدا، أحسبه سيظل يروي حكاياته في عالَمه الآخَر، ويبدع غيرها لمن أحبهم وسبقوه، ربما سيعلِّقها على السحاب، ويرسلها إلينا مع المطر، فهو القاص الذي استطاع أن يطوِّع الحياة ويروي بها، يكتب بنبض ما لمس وعايش، باستخلاص الحكمة من الذي رآه وسمعه، يملأ فراغات؛ يقف أمامها البشر حائرين، فيسلط عليها أضواء تأمُّله للإنسان وأسئلة وجوده، بتحويل ما لم يجده براقا في الواقع، فعالَج عاديته وتكراره وجعله مدهشا وجميلا.
ففي نسيج كتابته للسرد القصصي، وحكاياته الشفهية الممتعة أيضا، تتكشَّف سِمَتان جوهريتان، الأولى: استدعاء روح مصر في مفهوم الزمن الممتد، الموغل في القِدَم والسائر مع الحاضر والمستقبل، المبحرة في الشخوص، المتجلية في الصفات المميزة والهُوَيَّة الخاصة. والسمة الثانية: في القدرة على المحبة، الحب الذي يظلل الحياة ويُكسبها معنًى وقيمة.
تختفي عظام الأب من المقبرة التي يجددها رجال العائلة، ويكاد الابن أن يُجَن بحثا عن أبيه، ثم يراه في المرايا حين نظر إلى نفْسه وتمعن بها، يقول: “كنت أخطو ناحية المرايا متأملا ذلك الواقف فيها، وكأنني أشق الغيوم مثل طائر، الحاجبان والعينان، والشفتان المزمومتان، ولمعة العين الخاطفة كحد السكين، والحزن المغلِّف الوجه كقناع قديم، والرأس وقد اشتعل شيبا، أخطو وقد ملأتني البهجة كلما تعرفت على ذلك الذي في المرآة.. أبي أبي”.
ويرى الابن والده أيضا في صغيره، يقول:” لحظة أشعر فيها بتيار الدم ينتفض، بادئا من عروقه، مارا بشراييني حتى ابني الصغير، الذي يضمه الآن في حنية”، تلك مقاطع من قصة “شرف الدم” ضمن مجموعة “دوائر من حنين”، في كل فقرة يجسد الكفراوي رؤية للزمن، تمتد من عمق الماضي، الذي يتسرب في الحاضر ويغذيه، كما يتطلع للمستقبل من أجل أن يستأنس به.
في بنية سرد معظم قصصه لا يأتي “الزمن” مغسولا منفردا، لكنه يستحضر قرينه الذي ندركه به، فيتجلى “المكان” المسكون بقِدَمه وعراقته، فيستطيب القارئ روح القُرى المصرية الضاربة في عمق الوجود، عاداتهم وتقاليدهم، أفراحهم وأحزانهم، حسهم الإبداعي، واقعهم المسحور بحكايات مغزولة بالغرائبي والأسطوري.
ثاني ما أود الإشارة إليه: شيوع روح المحبة، حيث التقاط سمات الإنسانية السمحة الباحثة عن هويتها التلقائية ونقائها دون افتعال، هذا السحر الذي يغلف سرده بغلالة من روحه المرحة العذبة.
فهو السرد الذي يفيض بالتفاصيل، التي تمس الروح، كما تمس جلودنا وواقعنا تماما، التفاصيل التي تجسدها طقوسنا، ومن خلالها تورق المحبة، في قصته “جناحان لعلي” يَهِبُّ أهل القرية جميعا؛ الحلاق والطبال والكهربائي ليزفوا نوارة – بنت الناس البسطاء، اليتيمة أخت علي – لعريسها، زفة تليق بفرح، ودون انكسار، فالأعشاش تستدفئ بأهلها.
في “جناحان لعلي” يرسم الكفراوي الشخصيات بلون خضرة الحقول؛ فنرى مثلا نوارة الفتاة اليتيمة، التي تشتري لأخيها الصغير كتاب الحكايات من البندر، والصور الملونة، وكوب الخروب والحلويات، التي تدعو له بالتوفيق ونور الطريق وهي توصله لطريق المدرسة، وتستمع لحكاياته الماكرة الصغيرة عن الريح، وتتعاطف معها وتقلق من أجله.
بعض الكتاب فقط يستطيعون منْحك سعادة ودفئا داخليا حين تقرأ لهم، ربما يمنحونك ثقة بأن – في هذا العالم – ثمة أملًا وبريقًا، يمكن أن نخطو به، ونعيش من أجله.
حين كان الأستاذ: سعيد الكفراوي يقف بيننا ليقص أحد حكاياته، التي لا تعرف – وأنت تسمعها – أين مساحات الحقيقية بها وأين المتخيَّل، ويراوحك بين الواقع والأسطورة؛ كنت أشعر أنني أستمع لخليط ممزوج بين مُنشِد القصص في الريف المصري العريق، وأعظم قصاصي العالم ثقافة وموهبة، وتلك خصوصية قطعة من روح مصر المبدعة، التي رغم رحيل فارسها سيظل بيننا.