مالم تقله ولم يقله أيضا
د. أماني فؤاد
«حين توجَّه المَلِك بالسؤال إلى هاملت: أين بولونيوس؟ رد هاملت: على مائدة العشاء.
سأله: العشاء أين؟
أجاب: ليس حيث يأكل؛ بل حيث يُؤكل”
قالت: لستُ حيث أحبُ، تضعني على مائدتك لتعاود النظر في وجودي عشرات المرات، تحشرني في فائض الوقت، أو تطويني في جيبك الخلفي لشهور. تعوِّل على أن الوهج – الذي اختطفنا ذات يوم – يتلاشى مع الوقت، ينهزم أمام شعورك بالمسئولية، تبدِّده انشغالاتك، ويُطوى مع المسافات، كاتم الصوت – الذي تصوبه نحو جبهتي مباشرة – لا يلغي انهمار رصاصاتك. ما أُدركه أن كل غياب يولِّد آخَر.
لم تقُلْ كلمة واحدة، صارت تعرفه، يلقيها وعشقه ليقتاتا تردُّدًا، يومٌ لها والأيام الأخرى في كهوفه.
قال: لستُ حيث أحب، كل اللافتات – التي غرستُها على جانبي طريقي – لم تَحمِنِي من المَيل، أريدها لكن لا أحتمل القيد، تهفو روحي إليها رغم عمليات إقصائها، التي أُجريها بلا انقطاع، كلما مرَّت بخاطري؛ تبسَّمتْ روحي، وعلَوتُ للحظات، لماذا هي؟ أهذا سؤال يُطرح في العشق؟ أي عشق! حريتي أقوى من العشق، لماذا تغوص بأعماقي على هذا النحو؟ كأنها امرأة تقبض على سِحر المحميات، نبْع ماء بِكر، موسيقى تنساب، نكهة قهوة، وقِطَع من الفاكهة والحلوى، مِظلَّة شاسعة تقطُر سِحرًا.
لم يقُلْ كلمة واحدة، كان يعرفها، تَدَعُ الكلمات تَمُرُّ، تراقب ما بعد الانفعالات.
قالت: لستُ حيث أرتضي، الحيرة شجرة تتعملق يومًا بعد آخَر، لِمَ لا نركض بمضمار واحد؟ هَبْنَا الفرصة لنكون معًا، أسير وإياك فوق حبْل نحيل، تهيَّأ لوقوعنا من فوقه بين خطوة وأخرى، لم نتحقق من البدايات؛ ليتعيَّن علينا الآن أن ننتهي! لم أقُلْ لك حتى الآن: إن الأيام المزدانة بك أجمل، فيها تحلِّق الطيور، وعن لؤلؤها تتفتح المحارات، لم أبُحْ لك أن صُدفةَ لقائنا تَجَلٍّ في الزمان والمكان، انفتاحٌ على جوهر الكون، لحظة أن غرَّدت البهجة.
مِرارًا حسبتُه سيتلقف اللحظة، خطفة البدايات، ربما انتظرته أن يقول: وجودكِ يغزل أيامي بالفرح، أنت الحلوى، وهدايا الميلاد.
قال: لستُ حيث أرتضي، في العشق ليس ثمة تردُّد، هو التوحُّد، كيف سأمنحها التفاصيل والمواقف والكلمات، يشغلني أكثر كيف سأرشق معولا في قُبَّة المتحف الساحرة، التي احتوتنا منذ التقينا؟ تُحيلنا تخوفاتنا – من كائنات كرستالية الوهج – لانطفاءات، لمسوخ تجتَرُّ الاحتمالات، سأخبرها أنها مسطحة مثل الدُّمى، شفتَيها تفسِدان جمال الكلمات، ثقيلة هي الساعات التي تمُرُّ فوق ملامحها. يلمس كذبه لكنه حتما سيقول.
تغيب؛ فيسألها: كيف كان شعورك وأنت تستقبلين العام الجديد؟ في الغالب أرادها أن تعيد ما سبق أن أرسلته إليه، يحنُّ لملمس أصابع كلماتها، للرائحة، بابتسامة نصف ساخرة اقتربت من أذنه، وقالت: بلا مشاعر؛ حياد تام.
كانت تكذب، فكل مسافة في الحب قاتلة، بالأحرى كانت تشعر بثقب كبير جوَّف صدرها كلما أمعن في الغياب. همست صديقتها في أذنيها – أحد الأيام – بأنها كلما اقتربت منها؛ تسمع عربدة رياح.
سألتْه: لماذا نَهَبُ مشاعرنا ما تقتات عليه، لو أننا نعلم أننا سنودعها قبورًا زخرفية الصنع؟ قالت أيضا: لم يكن لنا أن نتجاوز صُدفة اللقاء!
يعاود تعليق إجاباته على مشجب الانتظار، يجلس إلى طاولة تأملاته، ثم يسألها أن يختارا منطقة أمان؛ أن تَهَبَهُ الوقت؟ لم تقُلْ شيئًا، كل الكلمات أشباح لقاء.
عنَّفت قلبها، نقشتْ على الجدارن هوانَها لئلا تنسى، تصوراتنا عن العشق أجمل من واقعه؛ تبقى المواضع شاغرة، كل قلب لا يرضى إلا بساكنه، كان كلما مَدَّ جسرًا؛ عَبَرَتْه طواعية، ليتها لم تخطُ باتجاهه.
عاود الملك يسأل هاملت: هل انتهى؟ يقول هاملت: من تقصد؟
يجيب الملك: بولونيوس.
يشرد هاملت ويردد: أظنه انتهى.
فيُكمِل الملك: المؤسف تلك الأطياف التي تحلِّق فوق النهايات.