كيف يتمكن المواطن المصرى من عبور الطريق
د. أماني فؤاد
فى كل مرة أتحرك فى شوارع القاهرة ينتابنى مزيج من المشاعر المتداخلة، أشعر بالفخر لما يتم إنجازه من توسعات فى الطرُق القديمة وتحديث لها وتنظيم، وإنشاء طرُق جديدة وكبارى؛ لتيسير حركة السيارات وأخرى للمشاة، وألحظ التجهيزات التى تتم لمشروعات جديدة؛ لزيادة تيسير حركة البشر مثل القطار السريع. كل ما كان خانقًا وقديمًا ولا إنسانيًّا يتبدل إلى الاتساع والتحديث والراحة للمواطن، معظم ما كان عشوائيًّا يُزال، ويعاد بناؤه منظمًا وجميلَا ولائقًا بكرامة البشر، ينتابنى أيضًا الفخر بالرؤى الجديدة، تشعرك بعض المشروعات أنك تعيش فى دولة لا تسعى للتحديث الوقتى المرهون بفترة زمنية محددة، بل عيناها على المستقبل ومقومات العيش للأجيال القادمة، مشروعات عملاقة تراعى فى أهدافها وخططها المتغيرات التى ستحدث لسنوات قادمة؛ مثل مشروعات الطاقة والعاصمة الإدارية الجديدة، وتنمية محاور أخرى مثل الزراعة وغيرها. عين القيادة أيضًا على حل المشكلات من الجذور، وليس لمجرد تخدير الجماهير بحلول سريعة مسكّنة ووقتية.
عشت جُلَّ عمرى- طيلة الأربعين عامًا الماضية- لم أشهد خمسة بالمائة من هذه النهضة التى أرصدها بعينى فى كل موقع من أرض مصر، حتى إننى تساءلت لو أن رؤية تحديث مصر وتنفيذها بتلك الهمة التى نراها اليوم تمت وفق خطة وإرادة منذ أربعين سنة ماضية؛ كيف يكون حالنا الآن؟ بلا شك نصير فى طليعة الدول المتقدمة على أصعدة متعددة، أين كانت الخطط والإرادة؟ وكيف ظهرت الموارد الآن فقط؟
ينتابنى الحزن العميق أيضًا وأنا أرى السلوك العام للكثير من المواطنين فى هذه الشوارع التى تم تحديثها، حيث كل أشكال السلوك العشوائى، لا رادع للمارة فى الشوارع من فعل ما يعِنُّ لهم دون أى التزام بقواعد السير فى الشارع أو عبوره، يرمون بأنفسهم فى الطريق وكفى، لا تقدّر عقولهم الخطر الذى يمكن أن يتعرضوا له، أتحدث عن المشاة الذين يتحركون فى كل اتجاه، بين السيارات بلا أى ضابط، ولا يستخدمون كبارى المشاة المخصصة لذلك، وأيضًا عدم التزام وعشوائية الكثير من قائدى السيارات والباصات ووقوفهم فى نهر الشارع معرِّضين الجميع للخطر.
الخلل إذن يكمن فى السلوك البشرى الفردى، حيث ميراث معرفى أنه ليس ضمن منظومة كاملة وعادلة وإنسانية، لذا فهو يقتنص ما يريد فقط، ما يقفز إلى ذهنه، «يهبش» الأسهل فى الوصول لأهدافه دون نظر لما يحيط بها من أخطار، ولذا تظل معدلات الوفاة فى مصر من جراء حوادث الطرُق من أكبر المعدلات العالمية.
السيد الرئيس، المواطنون فى مصر بحاجة لشبكة طرُق منظمة ومتسعة من نوع آخر، تكمل ما بدأتموه بجسارة، وتسير معها بالتوازى، منظومة إجراءات قانونية وثقافية تلزمهم، وتدعوهم للتفكير العقلانى والمنطقى، تدفعهم للشعور بأهمية النظام والاقتناع به، فسلوك الكثيرين العشوائى المضطرب فى الطرُق، وعدم الاكتراث بالحياة، يدلل على الافتقار إلى منهج عقلانى فى التفكير، ومن ثم فى السلوك. نهج الكثيرين فى الطرُق وسلوكهم العشوائى دلالة أعمق على عشوائية ترتيب الذهن وتنظيمه.
السيد الرئيس، نحن بحاجة لخطة محكمة، أولًا: مجموعة قوانين صارمة وغرامات كبيرة وفورية لمن يعبُر أو يجتاز الشارع مترجلًا بين السيارات، وليس من الأماكن المخصصة، وهذا هو الضابط الأول؛ حيث القانون هو الرادع للسلوك العشوائى.
ثانيًا: خطة تنهض بها ثلاث وزارات وأكثر؛ وظيفتها تشكيل سلوك البشر وتهذيب أداءاتهم، وزارات الثقافة والتعليم والإعلام
ألا تملك الدولة أن تقتص من كل القنوات سواء ملك الدولة أو قنوات خاصة ثلاث ساعات كل يوم، فى أوقات متفرقة من ساعات ذروة المشاهدة، لبث رسائل موجهة تثقيفية، بطرق غير تقليدية، تعيد ترتيب وتهذيب السلوك العام لدى الجماهير العريضة من نواحٍ متعددة، فتلك مهمة وطنية رفيعة للارتقاء بعقل الإنسان وتنظيمه وتوعيته، من خلال برامج درامية ونقاشية تهدف لترسيخ قيمة النظام والالتزام بالقوانين للحفاظ على حياتهم وتنظيمها.
لماذا لا تدعو الدولة المتخصصين لإعداد برامج توعوية بوسائل مصوَّرة دراميًّا بطريقة جاذبة بواسطة فنانين محبوبين لدى الجماهير؟ ويمكن أن تقيم مسابقات لإعداد تلك البرامج، على أن تكون راقية المستوى، ليست شعبوية؛ لتجسد الشخصية المصرية الراقية الأصيلة، نحن لا نريد الترسيخ لوجود بعض النماذج الشعبوية السطحية فجة الأداء، التى شكلت إفرازًا طبيعيًّا لسواد العشوائية فى المجالات كافة، بل الارتقاء بالذوق المصرى فى السلوك، والمفردات، وطريقة الكلام، والشكل، وقدرته على توفير الأمان وحفظ حياة الإنسان.
إعادة تنظيم أذهان المصريين تتطلب شعورهم وثقتهم بالعدل والمساواة بين الجميع وفق قانون يتم تمكينه، شعورهم بأن النظام هو الأصل، وأنهم ليسوا بحاجة للفهلوة والالتفاف لنَيْل الأهداف، طالما يتم سريان كل شىء بطريقة عادلة ومنظمة، بشرط سعيهم المنضبط بها.
يتم ضبط مقومات الشخصية المصرية عندما يشعرون بأهميتهم لدى القائمين على كل المؤسسات، وأنهم ليسوا كائنات مهمشة بل مشاركين وفاعلين فى تسيير واختيار حياتهم، من خلال المناقشات والشفافية فى توضيح الأمور كافة.
التنظيم والالتزام يُكتسبان منذ البداية فى المدرسة، بداية من الالتزام بالحضور والزِّى، والانتظام فى الطابور، وعدم التسرب من الفصول، وأن يفعّل العقاب رادعًا لكل ما يخرج عن النظام العادل، يتم الضبط من انتظام المدرس أيضًا، وأن تتضمن المناهج أثر النظام والالتزام بالقوانين الموضوعة، تتضمن الخوف على أنفسنا والآخَرين، والوعى بأن العَيْش ضمن جماعات تنظمه القوانين وليس الرغبات الفردية فقط.
فى النهاية أود الإشارة إلى أننى ممن يؤمنون بأن المحيط خارج الإنسان- بداية من المنطقة التى يسكن بها، معمار بيته ومدينته، الطرُق التى يسير فيها، انضباط المدرسة التى يتعلم ويتربى بها، المنظومة التى تحفز عقله على التفكير والإبداع، مكان عمله- يصب كل هذا فى جعل الإنسان أكثر استقامة وتنظيمًا داخليًّا وخارجيًّا، فيشعر بآدميته وقدرته على الفعل والمشاركة.