المنظمة العربية

إرث يتطلب مواجهة

د. أماني فؤاد
بعد المستجدات الأخيرة فى تونس، يمكننا أن نقول إن مشروع الإخوان يلفظ أنفاسه الأخيرة على المستوى السياسى، حيث فقد السيطرة على مقومات الحُكم فى معظم البلدان، لكن لا يمكننا أن نستريح لتلك النتيجة، ونركن للاسترخاء غافلين عما زرعوه من أفكار متشددة، وإرث تكفيرى فى الآفاق الذهنية لشرائح عريضة من شعوب المنطقة العربية.
يتطلب مواجهة هذا الإرث – الذى رسَّخوه، ثم تركوه يرعى فى النسق الثقافى العام لفئات كبيرة – حزمة من الإجراءات على مستويات الحياة المختلفة، أولها السعى لتهيئة حياة سياسية عادلة وحقيقية ترسِّخ لفِعل الإنجاز، لنهضة الشعوب والارتفاع بمستويات معيشتهم، حياة تستند إلى مؤسسات مدنية عقلانية تجمع بين القوة، واحترام التعدد، وتقديم الخدمات دون فساد، قوة الدولة بمؤسساتها من خلال وجود إدارة حكيمة للمشكلات والصعوبات دون شعارات فضفاضة، كما قدَّموا أنفسهم ثم اتضح فشلهم، فالتمكن من إدارة حياة الناس وتيسيرها يعد الكابح العقلانى لنزعات الفوضى والتمرد، النزعات التى تستيقظ بضراوة بعد فترات الثورات، حيث تنشط الفردية والفئوية، والمذاهب والأيديولوجيات، وتستيقظ العرقيات وعصبية القبليات، فكلنا لن ينسى تلك الاضطرابات التى مرت على مصر، وما طفا على السطح من حمم مخزونها الجوفى من الاختلافات الأيديولوجية، ومطالب الفئويات. تواجهنا كل يوم الأخبار فى اليمن وليبيا وسوريا والعراق.
ربما الشىء الذى مرر هذه الأحداث الأخيرة فى تونس – دون اشتعال عنف بين الأطراف المتنازعة – خصوصية الحالة التونسية، لارتفاع الثقافة العامة لدى الشعب، لوجود نظام تعليمى جاد يفرز عقولا وكيانات تعى معنى الوطن الذى يتعين أن يضم الجميع، وحدود الحريات.
اختيارنا الحتمى الثانى لنواجه إرث التشدد والرجعية والانغلاق – الذى تركه الإخوان والتيارات السلفية – وضْعُ منظومة تعليم متكاملة، توفير عناصر بإمكانها أن تشيِّد كيانات إنسانية عقلانية وموضوعية، ترى الظواهر ضمن المنطق، وتستطيع أن تختار الأصوب لنفسها ووطنها، وأن تبدع مقومات حياة حديثة. منظومة يرتفع فيها دخْل المعلِّم وثقافته العامة وقدراته ووعيه، الوضع الراهن للمدرسين يدعونا لإعادة التأهيل الثقافى، وتعديل مسلمات فى النسق المعرفى والاجتماعى والاقتصادى، منظومة تتحرر فيها المناهج من الأفكار المُتْحَفِيَّة، وتستفز عقل الطالب للتفاعل مع الحياة مشاركا ومبدعا ومفكرا وليس ناقلا.
الملاحظة التى يرصدها بعضنا فى الجامعات، وفى تفسير ظواهر وأحداث المجتمع الفردية أو الجماعية سيطرة الفكر المتشدد، المنغلق على ذاته وغير القابل للآخَر، الذى يميل إلى التفسير الخرافى للظواهر ويلجأ لها لتساعده على حل مشكلاته، الكثيرون بعيدون للغاية عن التفكيرِ العلمى والعقلانى، يتوجهون للوراء فى مفهوم مغالط لطبيعة الزمن، رافضين لفكرة «التعايش المشترك» و«التسامح الدينى والثقافى»، يساومون فى «حقوق المرأة» ويرون مدنية الدولة علمانية وكُفرا.
ثالث المحاور التى ينبغى الاشتغال عليها – كما تفعل الدولة المصرية – العمل على رفْع مستوى الدخل وتنمية حياة الأفراد وتحسين ظروفها، حيث يتسبب تدنى المستوى المعيشى فى خلْق بيئة حاضنة لهذه النماذج الحانقة والمتشددة على المجتمع بصورة عامة، الفقر ليس سببا مباشرا فى خلْق نموذج إرهابى، لكنه يساعد فى تصديق الأوهام والخطابات المخدِّرة التى تصدِّرها تلك الجماعات بخطابات تَعِد بحياة يتوافر فيها كل المقومات والجنة ونعيمها وحور العين بعد الاستشهاد!
إن رفْض الفساد ومحاربة كل صوره محورٌ رابع شديد الأهمية، حيث تدعو الشفافية والعدالة لخلق مناخ من الثقة بين المواطنين وقيادة الدولة، تدعوهم لبذل الجهد وتأصيل قيمة العمل والحرص عليه، الشعور بأن مسارات الإنسان تتحرك بصورة طبيعية ومنطقية، فمع بذْل الجهد والاجتهاد يتم رفْع إمكانات حياة الفرد، وحين تنهار تلك المعادلة، يتم شيوع اللاثقة فى القيم والمعانى، فيلجأ الجميع للفهلوة والتهرب من الالتزام، والبحث عن الدخل بأى طريقة ممكنة حتى لو تمت بالرشوة أو التحايل بكل صوره.
المحور الخامس – الذى يدفع بثقة المواطنين فى الحياة – الشعور بأن حياتهم ميسَّرة وسلِسة نسبيا، كلنا يعلم أنه لا حياة بدون صعوبات، لكن هناك صعوبات يمكن تمريرها واجتيازها، وصعوبات أخرى تدفع للسأم من الحياة والشعور بعدم جدواها، مثل ألا يجد الفرد قُوته وقُوت أولاده، مثل أن يضطر للتحول لآلة تشتغل طيلة اليوم لمجرد سد الرمق، وتظل المشكلات الأخرى قائمة من علاج ودفْع فواتير كهرباء ومياه ودروس وزواج أولاده وتجهيزهم، هذه الملابسات تتسبب فى كثير من الجرائم، كثير من القنوط ونظرة عدمية للجدوى من العيش واستمراره، شعور الحكومات بالمشكلات الحياتية للمواطنين وتسهيل أمور حياتهم وتيسيرها يصب فى خلْق حالة من السواء المجتمعى العام.
ونستكمل محاورَ أخرى فى المقال القادم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى