في ضواحي باريس
بقلم احمد ابو المجد
بالقرب من ميدان الجمهورية بالعاصمة الفرنسية باريس حيث قامت الثورة التي غيرت ملامح العالم وأسست لمبادئ حقوق الإنسان وأنتجت أيضاً القوى الاستعمارية الاسوء في العصر الحديث ، قلت له سأكتب عنك يوماً ما يا صديقي والآن عليك أن تختار اسماً مستعاراً لتحافظ على خصوصيتك، ابتسم في سعادة بالغة ليس فقط لأنها المرة الأولى التي سوف يكتب عنه أحدهم بل ربما هي المرة الأولى أيضا التي يُطلب منه أن يختار شيء بكامل إيراداته.
قال : سمينى آمين مثل مولانا الشيخ الشعراوي الله يرحمه
قلت : آمين يا أمين
منذ عقد ونص تخرج آمين من كلية التربية بإحدى جامعات الدلتا بتقدير جيد، ثم ألتحق بالجيش المصري ليقضى خدمته العسكرية وهناك لاحظ قائد الكتيبة خطه الحسن فكلفه بمهام كتابية فقط، يمتلك آمين موهبة الرسم وله لوحات مبهره يستخدم فيها أقل الإمكانيات وخياله العظيم وخبرته الحياتية، بعد أن أنهى فترة التجنيد، حمل على عاتقه مثل الكثير من شباب الريف المصري مهمة إنقاذ عائلته من الفقر فهاجر إلى ليبيا ليعمل هناك مدة ستة أِشهر جمع خلالهم المال اللازم ليحجز مقعده في مركب مهاجرة تقطع البحر المتوسط نحو إيطاليا ، وهو في عرض البحر عاهد الله أن نجا هذه المرة لن يحاول مجددًا مهما حدث ، بالقرب من السواحل الإيطالية التقطتهم إحدى سفن الإنقاذ الألمانية ثم ألقت بهم في معسكر للمهاجرين بإحدى الجزر الإيطالية. هناك كان يحاول مع أصدقائه بشكل يومي الهروب من الجزيرة. استنكرت قائلاً لكنها جزيرة يا أمين إلى أين تهرب، يضحك ويقول كنا نأمل أن تكون شبه جزيرة أو شيء مثل ذلك. ثم يكمل بعد ذلك أخذونا في طائرة وكان كابوس العودة إلى مصر يراوده طيلة وجوده في السماء ولكن كان القدر رحيم وهبطت الطائرة في إحدى معسكرات المهاجرين ولكن هذه المرة داخل إيطاليا. يقول مبتسماً كانت الشرطة تعرف بالفعل إننا مصريين ولكننا كنا ندعى إننا من دول أفريقية أخرى ليحق لنا طلب اللجوء وفي إحدى المرات نظر إلى الضابط فجأة وقال بالعربية ” أهلاوي ولا زملكاوي؟ ” لم أتمالك نفسي من الضحك ولكنه ضحك أيضا ثم ذهب.
هرب أمين من المعسكر وركب أولى القطارات المتجهه إلى فرنسا وهناك عندما جاءت حملة التفتيش ذهب إلى المرحاض وعندما أتى المفتش ليطرق الباب أدعى إنه مريض ويريد الوقت حتى ذهب الضابط بعيداً ووصل أمين أخيراً إلى وجهته المقصودة. وفي باريس عمل في الصباغة مثل أغلبية المصريين هناك و يحكى متأثرا عن معاناة الأيام الأولى للعمل حين نزفت يداه من الاحتكاك الخشن مع الحائط والمواد الكيمائية ولكن مثل كل شيء في الحياة الوقت كافي لنعتاد كل شيء حتى الآلم.
على مدار ثلاثة عشر عاماً كان يكتفى بالقليل من راتبه ويرسل بالبقية لأهله في مصر، بنى لهم بيتاً كريماً وساهم في زواج أخوته الأربعة حتى وجد نفسه وهو على مشارف الأربعين وحيداً في بلد غريب بلا مال أو عائلة أو حتى أوراق شرعية للإقامة. والآن بعد أن أوفى بكل مسئولياته تجاه عائلته وجد في راتبه فائض كبير لا يعرف فيما يستخدمه فقام بعملية زراعة شعر، كنا نتمشى في شارع الشانزلزية الشهير حين قابله إحدى أبناء قريته مستغرباً ” أنت زرعت شعرك؟ ” هز أمين رأسه بالإيجاب أضاف الثاني والله إنى أفكر في الأمر نفسه، استنكر آمين قائلاً ولكنك تزوجت وأنجبت فما حاجتك لذلك؟
يشارك آمين في السكن مستجد صعيدي جاء منذ أشهر قليلة ولكن بمخاطر أكثر دراما وكوميديا سوداء سأحكي عنها فيما بعد بشكل منفصل ولكن الآن سأسميه يوسف. كل صباح كانت هناك معارك كلامية دامية بين يوسف وآمين يتهم الأول الثاني بانه فلاح لا يعرف كيف يعيش الوجهاء في بلاد العالم الأول بينما يرد الثاني الإهانة بإن الصعايدة معروفين بالغباء وهذا لا يخفى عن أحد. لم تفتقد تلك المعارك العنصرية من الفكاهة والكوميديا خاصة عندما كانوا يلجؤون إلى فضح مواقفهم القديمة أمامي، ينظر يوسف إلى ويقول ” أنه سمع عن أمين في أوائل أيامه في فرنسا أن ماكينة مترو الأنفاق ابتلعت تذكرته ولم تخرج له من الجهة الأخرى فما كان من أمين إلا إنه ذهب إلى موظفة المترو وقال لها
” لا ماشين بونا بيتيت لا تيكيت “( le ticket Bon apetit ( la machine لا ينكر أمين الحكاية ولكنه يرد ” انظر إلى من يتحدث ويذكره إنه حتى عهد حديث كان لا يزال يستبدل حرف الدال بالجيم مثلما يفعل مع اللغة العربية فيحول التحية الفرنسية الشهيرة Bonjour إلى ” bondour ” يتأُثر يوسف بشدة وينظر إلى قائلاً يكذب يا دكتور لا تصدقه، أجيبه لست دكتوراً يا يوسف لقد تركت الطب منذ فترة ولا أخطط للعودة له إطلاقاً يقاطعني بل تبدو دكتور ، وهل للأطباء مظهر ؟ يلقى بالضربة القاضية على غريمه قائلاً نعم على الأقل لا يبدون مثل آمين. في المساء يتقاسم الاثنان مهام الطهي وغسيل الأواني ويتشاركان التندر على شخص أخر ليس بينهم.
تحدثني حبيبتي على الهاتف كل 15 دقيقة لتتأكد إنني لست في أحضان الفرنسيات، أجيبها قاسماً إنني جالساً مع أمين نتحدث في أمور في غاية الكآبة، أنهي المكالمة. ينظر إلى أمين ويقول تبدو أن لغتك الإنجليزية ليست بخير، تتحدث ببطء وبلكنه مصرية. أجيبه معك حق أنا أكره اللغات في العموم وأجد صعوبة في تعلمها، أعتقد أن تعلم اللغات موهبة هناك من يمتلكها ومن يفقدها. يهز رأسه ويقرر منذ تلك اللحظة أن يتعمد التحدث بفرنسية سريعة للغاية لدرجة ألا أحد يعد يفهم شيء مما يقول حتى الفرنسيين منهم. يصيبه التوتر والأحراج فاهمس له جابراً بخاطره ” شوف في ناس ممكن تعيش عمرها كله في فرنسا وبردو ما يمتلكوش القدرة الكافية لفهم الكلام السريع، حاول مراعاتهم. “
كنت قد اشتقت للفول المصري ودلني أحد الأصدقاء على مكان تواجده في إحدى الأسواق المصرية في ضواحي باريس. وهناك فقدت طريق العودة فسألت أحد الشباب بجانبي الذي كانت مصريته واضحة، تفاجأ عندما حدثته بالمصرية ثم قال لكنك لا تبدو مصرياً، فقلت بل أنا مصري وأبي مصري بسماري ولوني مصري ( بصوت الفنانة نانسي عجرم )، يواصل ممكن ولكنك لم تولد في مصر ولم تعش بها، فنفيت قائلاً ولدت وعشت عمري كله على أرض مصر هنا استسلم قائلاً ” غريبة لا يبدو عليك الشقا ” وهنا خمنت إن له حكاية لابد أن تُحكى أتفقنا أن نلتقى في اليوم التالي في ميدان الجمهورية، وفي التاسعة صباحاً كان ينتظرني أمين إمام تماثيل الثورة.