د. عادل عامر يكتب .. طرق مكافحة الفساد في الفقه الإسلامي
إن الفساد آفة تنخر في عصب النظم المعاصرة، ولا فرق في ذلك بين دولة كبرى ودولة صغرى، فقد ثبت أن الفساد الإداري والمالي متفشٍ في معظم دول العالم، وإن كان ينتشر أكثر في الدول النامية، ويعوق تقدم العديد من الدول صوب الإعمار، وتحقيق العدل بين شعوبها، وهو بالفعل يكثر في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية، حيث يتم التغاضي عن كثير من الإجراءات والضوابط.
ومن هنا ليس من قبيل الصدقة أن ترتبط زيادة معدلات الفساد مع تفشي جائحة كورونا، لكن ما يميز منهج الإسلام الاقتصادي هو أنه قابل للتطبيق في كل الظروف والأحوال، والإسلام يجرّم كل صور استغلال الجوائح والأزمات لتحقيق مكاسب محرمة.
إن الفساد الذي يعاني منه عالم اليوم تتعدد أشكاله وصوره، ومن أهمها: الفساد الإداري، الفساد السوقي، الفساد الائتماني، الفساد المالي، الفساد المعلوماتي، والفساد البيئي.. وكما تجتهد كافة أنظمة العالم في مواجهة الفساد بكل صوره وأشكاله، وأحياناً توفق، وأحياناً لا توفق، فإن لدينا منظومة إسلامية شاملة لمواجهة الفساد الاقتصادي والإداري، كما لدينا منظومة شاملة لمواجهة الفساد الأخلاقي والسلوكي.
إن تشخيص أسباب المرض أمر لازم لوصف العلاج، ولذلك يعرض جانباً من أهم أسباب الفساد بأنواعه المختلفة، حيث يرجع الفساد الذي نعاني منه في حياتنا المعاصرة إلى: غياب الضمير، وتحكم الهوى والجشع، والإسراف والتقتير، وفساد ولاة الأمور في بعض المجتمعات، والشعور بالظلم، وعدم عدالة توزيع الدخل والثروة، وعدم إخراج حقوق الفقراء والضعفاء، وتعسير الحلال، وشيوع الربا والأساليب غير العادلة في الحصول على الأموال واستخدامها.. فضلاً عن عدم حوكمة الأنشطة والإجراءات، وتدني الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، وضعف الرقابة، لا سيما الرقابة على الائتمان المصرفي، وعلى الغذاء والدواء، وضعف النظام العقابي.
لقد شن القرآن الكريم حملة كبيرة على الفساد والمفسدين وبين مصدر الفساد، وهو اتباع الأهواء وكراهية الحق، (ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) المؤمنون71، هذه الأهواء التي تغري الإنسان فيفسد في الأرض ويدعى أنه مصلح، (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) البقرة11.
ومن هنا نجد أن الإسلام حاصر الفساد في مهده، وذلك بتربية ضمير الإنسان على الحق والعدل، وجعل العمل الصالح أساساً لخيري الدنيا والآخرة: 0مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل97، وبين أن الله مطلع على الإنسان في كل أحواله وفي نيته وعمله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) غافر19.
وشدد القرآن الكريم على المسؤولية الاجتماعية في أكثر من آية، حيث يقول الحق سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) الحجرات10، ويقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيم) آل عمران92، وحرم الإسلام أكل أموال الناس بالباطل: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون) البقرة 188. ومن ذلك الاحتكار والغش والسرقة والرشوة والاختلاس وكل مصادر الفساد.
إن الإسلام حرم الربا وضبط أساليب استخدام الأموال بالعدل بين شركاء استخدامها، على أساس مبدأ الخراج بالضمان، ونهى أن تصير الأموال دُولة بين الأغنياء، (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ…) الحشر7، وحرم الإسراف والتقتير (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) الفرقان67.
إن الفساد دائماً يرتبط بعنصرين مهمين من عناصر القيادة الناجحة، وهما: قوة الشخصية والأمانة، ولذلك نص القرآن الكريم عليهما: (…إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين) (القصص 26).. ولأن الحاجة الملحة قد تدفع الإنسان إلى الفساد جاء حرص الإسلام على إمهال المعسر (وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة280.
إن الرقابة الذاتية هي أهم وسائل مواجهة الفساد، ولذلك شرع الإسلام الرقابة على الأعمال، ومن بينها الرقابة الذاتية، ورقابة المحتسب، ورقابة ولي الأمر، والرقابة الشعبية، وعلى رأس كل ذلك مراقبة الله سبحانه وتعالى. كما شرع الإسلام منظومة عقابية دنيوية وأخروية رادعة، وفتح في الوقت ذاته باب التوبة حافزاً للرجوع عن الفساد فقال تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ المائدة 33-34.
إن الفساد ينخر في أكثر من ثلثي دول العالم، وقد كشف مؤشر الفساد العالمي لعام 2021 عن كيفية استغلال جائحة كورونا من قبل بعض الحكومات والشركات والأفراد لممارسة المزيد من الفساد، وبين أن جائحة كورونا فرضت على الجميع حالة من الطوارئ لا تنتهي، وأنه منذ أكثر من عام والحكومات تقوم في جميع أنحاء العالم بدور خاص في إدارة حالة الطوارئ من خلال مجموعة من التدابير، ومنها: توفير المعدات الطبية، استيراد الأدوية والكمامات، توفير اللقاحات، جمع حزم المساعدات وتوزيعها، وقد صرح (دانيال إريكسون) المدير الإداري في منظمة الشفافية الدولية بأنه «لسوء الحظ، شكل الوباء فرصة مناسبة لانتشار الفساد».. وركز خبراء مكافحة الفساد على الصلة بين الفساد ومجال الرعاية الصحية.
للأسف في الوقت الذي تتصدى فيه الحكومات لأزمة فيروس كورونا، من الممكن أن تؤدي الحاجة للتحرك بسرعة لمواجهة الجائحة إلى الإخلال بالإجراءات العادية المصممة لمكافحة الفساد، ويمكن أن تجعل ظروف تفشي جائحة كورونا الرقابة التقليدية أكثر صعوبة، علاوة على ذلك فإن طبيعة الاستجابة للحالات الطارئة ذاتها يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للفساد الذي يمكن، في أسوأ الحالات، أن يفضي إلى معاناة لا مبرر لها، بل وإلى فقدان الأرواح من خلال تحويل مسار الموارد القليلة بعيداً عن الناس الذين يحتاجون إليها أكثر من غيرهم.
فضلاً عن أن انتشار أو شيوع الفساد في ظل هذه الظروف الطارئة من شأنه أن يؤدي إلى ضياع الأموال المخصصة لمكافحة الوباء، وهذا ما أكدت علية جلسة الاستماع السنوية للاتحاد البرلماني الدولي التي عقدت عبر دائرة تليفزيونية تحت عنوان «محاربة الفساد لاستعادة الثقة في الحكومات وتحسين آفاق التنمية.
إن الإنفاق المالي الهائل لحكومات الدول الأعضاء بالمنظمة الدولية لمكافحة فيروس كورونا (كوفيد-19) والذي يقدر بتريليونات الدولارات يمكن أن يخلق فرصاً أكبر للفساد»، هذا فضلاً عن أن برلمانات دول العالم قد حثت على ضرورة الاضطلاع بدور حاسم في ضمان عدم ضياع هذه الأموال عن طريق الفساد، وحرمان الفئات الأكثر ضعفاً من الإمدادات الطبية أو برامج المساعدة . بضرورة بذل كل جهد حتى لا يمنع الفساد، أو يعيق التوزيع العادل للقاحات، وسيطرة بعض الدول الكبرى على النصيب الأكبر منها .
وللأسف فإنه على الرغم من أن العالم قطع شوطًا طويلاً منذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في عام 2003، إلا أن الفساد لا يزال يمثل تحديًا عالميًا منتشرًا، بل ازداد انتشاراً مع جائحة كورونا العالمية على نحو ما ورد في تقرير منظمة الشفافية الدولية.
أن للإسلام منهجه المتفرد في مواجهة كل السلوكيات الفاسدة والانحرافات المالية، ومنهجه في محاربة الفساد الاقتصادي يستهدف اقتلاع أسباب هذا الفساد من المنبع والإسلام من خلال حرصه على الحق والعدل يقف في مواجهة كل الممارسات الخاطئة أياً كان نوعها، ويحث على الفضيلة مهما كانت قيمتها، وإذا كان من منهج الإسلام محاربته للرذيلة، فإنه قد عني عناية فائقة بمكافحة الفساد بجميع أشكاله.. السياسي والاجتماعي والإداري والاقتصادي،
ووضعت الشريعة الإسلامية الغراء المنهج المثالي لمكافحة الفساد الاقتصادي، واتخذت كافة الإجراءات التي من شأنها المحافظة على مصادر الثروات العامة للدولة، ومنع التعدي عليها بسرقتها، أو غصبها، أو الإسراف فيها، وتمثلت هذه الإجراءات في تنمية القيم الأخلاقية لدى الكافة، وضرورة توفر الأمانة والجدارة فيمن يتولى الوظائف العامة، وتأمين المعيشة الكريمة للعاملية في الدولة، وتقريب الشقة بين الأغنياء والفقراء، ومراقبة العاملين بالدولة، والإشراف عليهم ومتابعة أعمالهم، وتجريم التعدي على المال العام.
أن الإسلام لا يقف في مواجهة الفساد عند سن التشريعات التي تحمل عقوبات للمفسدين فحسب، بل جاء بما هو أفضل من ذلك، وهو تربية الإنسان المناهض للفساد، فالمسلم الملتزم بتعاليم وأحكام دينه لا يعرف الفساد، والضمير الديني داخل الإنسان به دائماً عن كل ما هو حرام في كسب المال، والحرص على الأمانة في أداء الواجبات الوظيفية، والإخلاص في العمل، وإعفاف النفس عن المال العام، وتجنب مواطن الشبهات..
فإذا ما حرص الإنسان على ذلك أدى واجبه وكان رزقه حلالاً طيباً، وإذا ما امتدت يده إلى مال حرام؛ بسرقة أو رشوة أو غيرها أصبح ماله حراماً، ويجب استرداده وإعادته إلى أصحابه، سواء أكانت خزينة الدولة أو كان مالاً يخص آخرين.