المنظمة العربية

الغرب الذي يملك عشرات الأقنعة

د. أماني فؤاد
لأبي بيت كبير على الشاطئ، تُغرق الأمواج طابقَه الأسفلَ عندما يعلو البحر، رأيته دومًا ‏الأمانَ الذي يصلني بالطبيعة والسماء. في فَجْر أحد الصباحات، سمعت أصوات طائرات ‏تهبط بجواره، انتشر منها جنودٌ كُثر ملثمون، يحملون أسلحة غريبة، لم أَرَها من قبْل، ‏راحوا يكسرون الأبواب؛ فاختبئتُ أنا وأختي، ثم تفرَّقنا نهرول بين الغُرف، منذ هذه ‏اللحظة، في 2003 ، أصبح يرافقني كظِلِّي كائن لم أعرفه من قبْل، سمَّيته فيما بعد ‏الرعب العظيم، لم يَعُد يغادرني، كنت كُلَّما شعرت باقتراب أحد الجنود؛ أصرخ إلى أن ‏أنفجر أشلاءَ أراها تتناثر أمامي، حين تكرر هذا الكابوس مرَّاتٍ كثيرةً، أدركت توحُّدي مع ‏نساء العراق وآلامهن، أكره الحرب وترويع البشر، استباحة بيوتهم وأراضيهم، لم أستطِع ‏أبدًا تقبُّل جحيمها، وما تُخلِّفه من خوف ودمار. ‏
كنت كُلَّما ضِقْتُ ببعض أحوالنا وأحوال بلداننا، وعدم استقرار الأوضاع بها؛ أقارن بيننا ‏وأوضاع البلاد الأوربية والأمريكية، حيث الحضارة التي قامت على العقلانية ‏والديمقراطية، وتداوُل الحكم، وإرساء الحريات؛ الحضارة التي أنتجت قوانينَ حقوق ‏الإنسان والمرأة والطفل، القوانين التي كَفَلَت التعليم الجيدَ والصحة، ومستوى لائقًا من ‏الحياة لمواطنيها، دول التطور العِلْمي، وسيادة القانون مهما اختلفت الجنسيات والأعراق ‏والأديان، الدول التي سعت للاستقرار والاحتفال بحياة البشر، لا قهرهم وموتهم.‏
خرج ثانية كائن الرعب العظيم، منذ اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، أشاهد الصور ولا ‏أريد أن أصدِّق، هل ما يصدِّره الغرب -من عقلانية واحترام الحياة البشرية، وسياسات ‏التفاوض، ونبْذِ الحروب- مجرد شعارات لا يلتزمون هم بها؟
تجتاح روسيا أوكرانيا غير مكترثة بكل أُسس الحضارة الإنسانية، التي تشدَّقوا بها طويلا، ‏وبالتبعية انهارت كل دعاوى السِّلم والتفاوض الأوربية والأمريكية، يحشدون الأسلحة ‏والمُعِدَّات والطاقة لمساعدة أوكرانيا؛ من أجْل مقاومة الذئب الروسي المتغطرس، يسلِّحون ‏المواطنين؛ لئلا يتركون روسيا تفرض سيطرتها على العالم.‏
يبيعوننا الوهم الذي سرعان ما يسقط هَشًّا أمام نزعات حكامهم، يستبيحون فقط دماءنا، ‏ويعطون لعملياتهم العسكرية ضد العرب مسميات إنسانية، تسوِّغ تحكُّمَهم وأطماعهم ‏الاقتصاديةَ، ورغباتِ الزعامة من قبيل محاربة الإرهاب، أو زَرْع الديمقراطية والحريات.‏
‏أظهرت الحرب الأوكرانية -رغم مرارتها- التناقضاتِ الغربيةَ غير المنطقية، كيف لدولة ‏طرفًا في المشكلة -التي يناقشها مجلس الأمن- أن يكون لها حق الفيتو، كيف لروسيا ‏أن تصوِّت وهي أحد طرفَي المشكلة؟ أحسب أنه لا جدوى من بقاء هذا الكيان إن لم ‏تعدل قوانينه. أظهرت أيضًا أن حقوق الإنسان لا تشمل الأفارقة والعرب؛ فحرس حدودهم ‏يوقفون “السود” ويرسلونهم إلى الجزء الخلفي من الطابور، قائلين إنهم يتعيَّن عليهم ‏السماح لـ “الأوكرانيين” بالعبور أولًا‏‎”.‎‏ قالت المراسِلة‎ ‎الأمريكية -عن تدفُّق اللاجئين ‏الأوكرانيين إلى بولندا-“هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء من أوكرانيا، إنهم ‏مسيحيون، إنهم بِيْض، إنهم مثلنا.” ‏
‏‎ستظَلُّ النزاعات الإقليميةُ -بين دول عالم الثالث في الشرق الإسلامي وإفريقيا- نزاعاتٍ ‏عبثيَّةً، تحافظ على استمرارية الهيمنة الغربية، في حين يتشكَّل الحقُّ في هذا العالَم ‏بامتلاك أنواع القوى: السلاح المتطور، المكانة الدولية، التكنولوجيا، إعلام محترف، قادة ‏أقوياء، وامتلاك معظم مقومات حياة المواطنين دون الاعتماد على أحد.‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى