أخبارمقالات وآراء
السماء براح.. وجناحك سجنك!
بقلم نهى البلك
كحلم كل البشر، قرر أن يفرد جناحيه في الهواء ليطير، ليبلغ من الحرية منتهاها، ويرفع ساقيه عن الأرض بقيودها وعقباتها ومسالكها المحددة وطرقها الملتوية.. فرد جناحيه، لكنهما لم يتحملاه ولا حملاه، فسقط كسيرا.
عندما فعلها “عباس بن فرناس” في القرن التاسع الميلادي، ربما كان يسعى لتجربة فيزيائية، جسدية، أراد اختبار قدرته وقدرات البشر على تجاوز الحدود وشكل الحركة المألوف والطبيعي والمعتاد، إلى براح أوسع وحرية أكبر.
لكن حلم البشر بالحرية لا ينتهي.. بحث دائم ودائب وسعي مستمر لتحقيق هذا الحلم الأكبر: الحرية.
خلق الإنسان في قيد، منذ البداية، هو جسده.. وقيد ثان، هو الطبيعة، وثالث، هو الآخرون.. ورابع، هو مجتمعه.. ثم قيد خامس، هو معتقداته.
جسده.. بملامحه وشكله واحتياجاته وشهواته وطاقاته المحدودة وما يطرأ عليه من تغيرات.. ويظل في صراعه الأبدي مع كل ذلك، بمقاومة حينًا وبالاستسلام في أغلب الأحيان.. هو مضطر للخضوع لسجن جسده بكل ما يفرضه عليه وما يحرمه منه، لكنه يبقى في محاولاته للتخلص من سجنه، فظهرت عمليات التجميل والعلاجات والمقويات والتدريبات الرياضية التي تروض الجسد ليلائم طموح النفس في المرونة واتساع الطاقات، والطبيعة.. بكل ما فيها من تكوين وطقس يتبدل وعوارض تطرأ وما تفرضه من عطاءات أو مخاطر، هو مضطر للتكيف معها مهما حاول ترويضها وتهيئتها بقدراته المحدودة.
أما الآخرون، فهم السجن الذي قد يبدو له أنه يمتلك تحكما أكبر فيه، من خلال اختيار علاقاته ومعاملاته، إلا أنه يبقى مضطرا.. فهناك عائلة لم يخترها، وشريك حياة له احتياجاته، وشركاء عمل، وعابرون في الحياة من حوله لا يستطيع تجاوزهم، ومجتمع.. يولد فيه، يفرض عليه قوانينه وعاداته ونمط حياة.. ربما يقاوم بعض ذلك بالثورات مثلا!
لكن أبدا لا ينتهي الأمر بالفرد إلى نمط حياة بالضبط كما يريد، يبقى هناك آخرون يصنعون -بمجموعهم- المجتمع ككل، ومهما ارتحل، فمن مجتمع بقيوده إلى مجتمع جديد، بقيود ربما فقط تختلف.
ثم المعتقدات.. الدين أو الأفكار التي يؤمن بها الإنسان ويرتبط بها حد التعلق والتحكم الكامل في حياته.. قد -وهذا هو الغالب- لا يشعر أبدا بأنه تحت هذا القيد، وبأنه ربما يعجز عن رؤية أفكار مغايرة بصورة حقيقية وسليمة لأنه حبيس فكرته.. ومن أجل هذا يحاول البعض التملص من الدين متصورا أنه بذلك يتخلص من السجن، غير مدرك أنه إنما يبدل سجنا بسجن! فالفكرة المسيطرة – أيا كانت – هي ذلك السجن وليس كونها دينا أو معتقدا مقدسا.
في الغالب ينظر كل منا للآخر على أنه سجين شيء ما.. كل مجتمع ينضوي وراء قضبان ما، قد تكون الدين أو تكون المادة أو تكون الجهل أو الفقر أو نمط حياة، لكن كل مجتمع ارتضى قضبانه.
وكل فرد يحيا بفكرة ما، بمعتقد، يتبعه ويلتزمه في الغالب بمحبة وإيمان وشغف، حتى لو ارتآه الآخرون قيدا.. سجين ينظر لسجين باستنكار، وربما بإشفاق، ويبادله الآخر نظرة بنظرة!
كل واحد يتصور -يقينا- أن الخلاص عنده.. كل واحد يتصور أنه من يملك البراح الكامل، ويدعو الآخر إلى الفرار من سجن ذاته، غير مدرك أن الآخر يراه بنفس الصورة.. كاثنين وقفا على طرفي نفق، كل منهما يرى الآخر ضئيلا يقف في عمق مظلم، كل منهما يقول للآخر: الضوء هنا، الطريق أمامي، الخروج من عندي!
الآن يملك الإنسان الطيران، من خلال الطائرة، أو المنطاد، أو حبل سميك يشده إلى بروز في جبل شاهق يتسلقه ليقفز من فوقه محققا الشعور بالتحليق ولو للحظات.. يفعل الإنسان هذا كله مستمتعا بالحالة وهو يدرك جيدا أنه ما برح قيوده.. الآلة الضخمة أو البالون الملون أو الرابط الغليظ الذي يتيقن من دقة وثاقه قبل القفز.. يعلم الإنسان جيدا أنه في عز حريته حبيسا.. لايزال.
الآن يستطيع الإنسان أن يطير، في حدود قواعد وتعليمات.. وفي سجن جناح يختاره!