دكتور صلاح سلام يكتب.. أيام في الظلام
كلنا نذكر بالطبع قاهر الظلام الأديب والفيلسوف السابق عصره طه حسين صاحب مجانية التعليم الثانوي ١٩٥٠ بعد أن قرر نجيب الهلالي مجانية التعليم الابتدائي ١٩٤٤…وأضاف عبد الناصر التعليم الجامعي ١٩٦٢ ونظرا لان معظم قرى مصر كانت تعيش في ظلام دامس قبل السد العالي وكانت الوسيلة الوحيدة والانيس في ليالي الظلام هية لمبة الجاز ومنها نمرة ٥ اذا كان الهدف مجرد إضاءة للتسامر او منتدى الأصدقاء او نمرة ١٠ اذا كان الهدف المذاكرة والقراءة والسهر أما الونيسة فهي النور الخافت الذي يصاحب النيام حتى لا يتعثروا اذا استيقظوا ليلا لأي من الاسباب وقد استلهمت العنوان من قصة احسان عبد القدوس ايام في الحلال والتي تحولت الى فيلم لنبيلة عبيد ومحمود ياسين…كانت اللمبة ذات الوقود نافذ الرائحة”الجاز”هي ونيسي في الغرفة القبلية حيث أن بيتنا كله مكون من غرف بحرية وهي للنوم او للضيافة وان كانت غرفة الضيافة”المندرة”يستخدمها اخواتي للمذاكرة..وبالطبع لايوجد مكان لي فأنا اخر العنقود..اي أصغر اخوتي وأريد مكان للمذاكرة..صحيح انني كنت انبطح أرضا لأكتب الواجب المدرسي واحيانا اكتبه على الطبلية نهارا ..ولكن في داخلي رجل يريد أن يستقدم أصحابه ليذاكروا معه تقليدا لاخوتي الأكبر سنا…ولم تشأ الحاجة وهيبة”ياسمين،” ان تكسر بخاطري فقد وجدت متسعا في الغرفة القبلية وصنعت بها حاجزا من القماش مشدودا على حبل غسيل من البلاستيك وكأنه ستارة سينما ..وبرزت مشكلة الكهرباء …فلايوجد شبكة تصل إلى الجهة القبلية من البيت ولم يكن ذلك سهلا فهو يحتاج إلى ميزانية كبيرة..عشرات الأمتار من السلك ومستلزمات أخرى.. فكان لابد من لمبة الجاز نمرة ١٠…وقد رضيت بها مؤقتا لعل النور يصل الي بعد إتمام بناء السد العالي او أن يسافر الأخوة لإكمال تعليمهم في القاهرة أيهما اقرب….ورضيت بنصيبي حتى استطيع ان استقبل اقراني وانا ما زلت في المرحلة الابتدائية وعلى أعتاب الإعدادية وكانت كل مشكلتي تلك الرائحة الخفية لوجود الكيروسين والعادم الأسود الذي يلتصق بغشاء الانف ويحتاج إلى الاستنشاق بماء دافئ مساء وفي الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة أما مايعانق الشعب الهوائية في القفص الصدري فمتروك إلى الأيام والزمن كي يتعامل معه… فكانت نصيحة امي أن استقبل زملائي عصرا حتى إذا جن الليل فلا نمكث كثيرا حفاظا على النظر و تجنب “هباب” اللمبة والتي تشبه مشروع النور حيث كانت تلك التسمية هي السارية في مدينتنا “العريش” حيث ماكينة الديزل الكبيرة التي تقبع قرب وادي العريش والتي تهدر بصوتها لإنتاج الكهرباء وتنبعث من مدخنتها سحب سوداء… وهكذا ظل اسم “المشروع ” الذي لم يكتمل الا بعد عودة السيادة المصرية على سيناء بعد انتهاء الاحتلال…وقد تعايشنا مع انقطاع التيار طوال سنوات الاحتلال وربما قبله أيضا وأصبح الواجب اليومي لأختي الوحيدة رحمها الله أن تنظف وتغسل لمبات الجاز مما علق بها من السواد باستخدام الرمل المبلل ثم ليفة خاصة لتجعلها بنورة شفافة مرة أخرى وتعد قواعد اللمبات الزجاجية بملأها بالكيروسين وتركيب الأشرطة التي تشتعل حيث يسري بها السائل بنظرية الخاصة الشعرية كما درسوا لنا في حصة العلوم …أما استخدام الكلوب فهو وسيلة اكثر تقدما حيث يصدر منها إضاءة أعلى بلون يميل الى النيون من رتينة معلقة في أعلاه و بحجم اكبر من إضاءة لمبة الكيروسين الكبيرة ويتم استخدامه في حالة الطوارئ في المندرة او في وجود ضيوف في أي مناسبة….ولا أريد أن انهي قبل أن اذكر انه أحيانا كان يتم فصل التيار عن البيوت وتظل انوار أعمدة الشوارع فلابأس أن نأخذ الكتاب ونقف تحت العامود اذا كانت ليلة امتحان ..ولم يكن ذلك عيبا او مثار سخرية في ذلك الوقت العصيب…رحم الله تلك الأيام…نعم الحديث ذي شجون ولكل حادثة حديث…ولن ازيد!!!!!