مقالات وآراء
المسامح كريم .. ثقافة الصفح والعفو عند المقدرة
بقلم الدكتور عادل عامر
إن الثأر ببساطة شديدة دافع يُلزم الفرد من عصبية خاصة بالانتقام، أي الثأر لأحد أقربائه ممن قتله، ويصور في العادة إحدى مراحل تطور الجماعة عندما تكون القبيلة هي الرابطة الاجتماعية الوحيدة، وصاحبة السلطان، نافيًا عن السلطة أو الحكومة أو الدولة أن تنوب عن الفرد في القصاص، أو أن يخشى الفرد أن تنوب عنه الدولة في نيل شرف القصاص فيلتصق به عار الجُبن وقصر اليد.
لذلك ندعو الي ثقافة ّ التسامح لأنه هو الصفح والعفو عند المقدرة، ولا بدّ أن يكون التسامح من الصّفات التي قد تجد لها المصاعب على النّفس، فليس سهلًا على المرء أن يصفح ويُسامح من غدر به أو خانه وأن يختلق له الأعذار
وأن يتجاوز عن سيئاته وينظر إلى المزايا التي يتمتّع بها، وقد أشارت المختصّة في علوم الطاقة الباطنيّة الدكتورة إجلال إلى وجوب أن يترك المرء الأمر يأخذ مجراه، وأن لا يُبالغ في ردّ فعله كي لا يُعرقل ذلك مسيرة الرّوح في الجسد،
فطاقة التّسامح هي طاقة الرّوح ونفحةٌ ربّانيّة لا تتوافق مع الشّرّ والحقد والمشاعر والأفكار السلبيّة، وفيما يأتي من المقال سيتمّ التركيز على أهميّة التسامح في حياتنا
ولا يمكن إنكار أن عادة الثأر اتصفت بها كل الشعوب دون استثناء، وليس أهالي الصعيد فقط، وفي كل المراحل التاريخية أيضًا. ورسوخ تلك العادة وحيويتها في الصعيد لا يمكن رده لسبب بعينه، بل هو نتيجة منظومة معقدة جعلت النظام القبَلي حيًّا وفعالاً بشكل واضح؛ بمعنى أن نظام الدولة منذ ظهوره على يد محمد علي، لم ينجح في استيعاب متطلبات الصعيد بالشكل الذي يتلاشى فيه النظام القبَلي، كذلك فإن البُعد الجماعي لعادة الثأر،
وقيامها على قيم مطلقة مثل قيمة العار لا يجعلان من واقعة القتل حدثًا منطقيًا يخضع لحسابات المكسب والخسارة، ما يُسفر عن ممارسات أخرى يعود إليها استهجان تلك العادة بالدرجة الأولى مثل عدم عقد العزم على قتل القاتل شخصيًا في بعض الأحيان، بل طلب الثأر من عائلته برمتها، أو الأفضل فيها بشكل مطلق،
وهنا تكمن ثقافة القبَيلة، فواقعة القتل ليست حدثًا فرديًا يمارسه فرد في حق فرد، القاتل هنا فرد من قبيلة يقع عليها الوزر، والمقتول كذلك فرد من قبيلة يقع عليها واجب الثأر، فالعدوان حتى لو كان فرديًا إلا أنه يمثل انتهاكًا لحرمة القبيلة بأسرها، ولذا فهي تطلب الثأر من قبيلة القاتل، وإمعانًا في تأكيد المعنى، قد يختار أهل القتيل رمزًا من رموز القبيلة الأخرى، ذلك أن النظام الفعلي قَبَلي في جوهره، فحق القتيل واجب القبيلة لا الدولة، وهي لا تسعى كي تسترد حق المقتول فقط، ولكنها تسترد هيبتها أيضًا، ومن ثم تتجاوز عادة الثأر فكرة القصاص من القاتل.
كما تتّضح أهميّة التّسامح في حياتنا من خلال الآثار التي يُخلّفها التسامح:
الآثار النفسيّة: إنّ للتسامح أثرٌ كبيرٌ على كينونة الفرد، والتي تتلخّص في رحابة الصّدر وتأصيل جذور المحبّة والإخاء في النفس البشريّة، كما يزيد التسامح من الثقة بالنّفس ويحثّ النفس على تقدير ذاتها، كما يرسم فاعله البشاشة على محيّى الآخرين.
الآثار الاجتماعيّة: إنّ للتسامح دورٌ عظيمٌ في الحياة الاجتماعيّة، فإنّه يعمل على تأصيل القيم الاجتماعيّة بين الأفراد وينثر بذور المسامحة والتغاضي ومبدأ العفو بين المقدرة، ممّا يدفع أفراد المجتمع إلى التماسك والتعاضد للسموّ به نحو المجد.
كما أن إشاعة ونشر ثقافة التسامح يجب أن يبدأ من المنزل منذ لحظة ميلاد الطفل وزرع هذه القيم داخله في كل مراحل حياته، ويجب نشر الحب والتسامح والسلام في كل مراحل التعليم من خلال تأصيل العديد من القيم والمواقف
وأساليب الحياة التي تستند إلى الاحترام الكامل لمبادئ السيادة وحقوق الإنسان والحريات والاعتماد على الحوار المنطقي بين الأفراد والمؤسسات وترسيخ مفهوم التعاون بين الجميع بما يتيح إخراج السلوك المنطقي الذي يحمى الفرد من الفرد ويحمى المجتمع من الفرد ويحمى الفرد من نفسه.
إن عادة الأخذ بالثأر كانت قد تأصلت عند العرب قبل الإسلام حيث كانوا لا يأخذون شخصًا بآخر، وإنما ينتقون أفضل الأشخاص ويأخذون الحر في مقابل العبد، ورئيس القبيلة مقابل أي فرد من القبيلة الأخرى.
أن الاسلام وضع قاعدة للقضاء على عادة الأخذ بالثأر السيئة حيث جاء في كتاب الله العزيز قوله تعالى: (ولقد كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) [المائدة 45] فالقاتل -وحده -يُقتل قصاصاً.
أن تنفيذ القصاص منوط بالحاكم دون غيره، لذا فإنه لا يجوز الافتئات عليه في هذا الشأن لأنه يستطيع أن يقيس ويوازن، سواء في الجروح أم الأنفس بعد أن يتأكد له القتل العمد من عدمه حتى لا يترك الفرصة للطرف الآخر بفعل ذلك أو أكثر منه.
إنه لو كانت الحكومات حريصة على تنفيذ القصاص لساهم ذلك كثيرًا في القضاء على هذه العادة ولكن ما يحدث الآن أن القاتل يوكل بالمحامين الذين يأتون بالحجج ويتحايلون على القانون ويستغلون الثغرات فيه حتى يفلت من العقاب.
أن الدعاة يتحملون مسؤولية كبيرة في محاربة هذه العادة البشعة، ولذا فإن عليهم تكثيف سبل القضاء عليها من الجذور والمساهمة بجد وإخلاص في تغيير هذا الواقع المؤذي الذي يجلب على المجتمع الخراب والدمار بما يخالف ما جاء به
على الرغم من أن الدراما التليفزيونية والسينمائية أظهرت المرأة الصعيدية في صورة المقهورة والمظلومة التي تحرم من طفولتها ومن حقها في التعليم ومن ميراثها الشرعي. وغيرها من الصور السلبية التي ترسخت في الأذهان عن نساء الصعيد، إلا إن الواقع يختلف كثيرا، فالمرأة ربما تكون مقهورة ومحملة بالكثير من الهموم والأعباء،
ولكن هذا الأمر ينطبق -أيضا -على الرجل الصعيدي، فالطبيعة القاسية في جنوب مصر من فقر وبطالة وجهل ونقص في الخدمات لا تفرق بين رجل وامرأة، فالكل تحرق بشمس الصعيد اللاهبة وعاني من تقاليده الجامدة الصارمة، ولا يملك أحد التملص من تلك التقاليد إلا اتهم بالجبن والعقوق. ومن المفارقة أن المرأة الصعيدية تلعب دور الحارس على تلك التقاليد،
وعلى رأسها بالطبع الثأر، فالمرأة تكاد توهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدرا، وتتصدي لأي محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من ” الدم “،
وشهد الصعيد عشرات النسوة اللاتي بتن يدعين الله ليل نهار أن يحفظ لهن الابن والأخ، لا لشيء إلا ليأخذ ثأر عائلته، فالمرأة الصعيدية ترضع ابنها وتربي شقيقها على أن الثأر مرادفا للرجولة، وانه قدر محتوم لا مفر منه، وفي أحد حوادث الثأر استدرج شقيقان قاتل أخيهما لتناول العشاء ثم ذبحوه وقدموا رأسه هدية لأمهم.
أنها تقتل وتحصد الأرواح دون تمييز وتؤثر في الأسرة والمجتمع بما تحدثه من تشريد للأسر ونزوحها من مسقط رأسها للعيش في مناطق بعيدة وما ينتج عنها من ويلات ومصائب تحدث بالغ الضرر في أفراد الأسرة والأقارب نظراً لتوارثنا ظاهرة الثأر-جيلاً بعد جيل وما ينتج عنها من تعطيل وتخريب للمشاريع الأهلية والخدماتية، والتنموية التي تتوقف صداها وآلية العمل فيها بسب الثارات ناهيك عن الآثار المترتبة عنها بإثارة
عوامل الخوف والقلق وانفلات الأمن والأمان والاستقرار وانتشار الفوضى وأعمال النهب والسرقة وغيرها كذلك حرمان الأطفال من إكمال دراستهم أكان في مسقط رأسهم أو في مناطق نزوحهم بسبب ظاهرة الثأر التي لا تفرق بين مجرم أو جريء بجزم باعتبارها مسؤولية الجميع حكومةً وشعباً. ومن أجل القضاء على ظاهرة الثأر والحد من آثارها
—