مقالات وآراء

دماء كثيرة لم تزَل تُراق فى خلفية اللوحة

د. أماني فؤاد
المشهد- الذى يطفو على السطح لحقوق المرأة وأوضاعها- يقول إن عددًا من الوزيرات يزيد فى الحكومات المتعاقبة، ونائبات فى البرلمانات، وكاتبات، وعالِمات، وامرأة فى كل موقع وقيادة إلا مواقع قليلة، هذه اللوحة المشجِّعة تدعو إلى قَول: إن المرأة فى طريقها الصحيح لحصولها على حقوقها كاملة.
المتأمِّل للمشهد سيجد فى خلفية اللوحة دماءً كثيرة لم تزَل تُراق، هذه اللوحة لا تعكس حقيقة أوضاع المرأة التى يُرثى لها فى العمق الثقافى، وضمن علاقات المجتمع، حيث تعانى النساء من أعمال عنْف متفاقمة، وبأشكال متعددة، ويتجلَّى هذا فى القضايا الجنائية، والدراما التليفزيونية كأفضل شاهد على ما يحدث فى الواقع.
هناك تَفَشٍّ لظاهرة العنف ضد النساء، تحت ذريعة خرْق بعضهن للعادات والتقاليد، أو غسْلًا للعار، وهو إجرام وتجاوُز فَظٌّ على حقوق المرأة وكرامتها وإنسانيتها. فى كل بلد عربى وإسلامى تصفعنا عنوانات الصحف كل آنٍ بجريمة قتْل لإحدى النساء تحت دعاوى الشرف وغسْل العار، هذا عدا جرائم التعذيب والضرب والإهانات، وحبْس بعضهن فى البيوت، أو تزويجهن دون إرادتهن.
وربما السؤال الأهم: لماذا تقتل ثقافة مجتمعاتنا المرأة، فى حين لا تقتل الرجُل؛ شريكها فى الواقعة المرفوضة؟ أحسب أن تلك العقلية العصبية المتحيزة، التى أعلنت سيادتها، لا تعامِل المرأة على الإطلاق بوصفها كائنًا بشريًّا كامل الأهلية، له حقوق وواجبات، الوعى الجمعى العام يعاملها كائنًا مملوكًا للرجُل، منتقَص الحريات، ولذا يتصرف معها وليُّ أمْرها «الأب، الأخ، الزوج» كأى حيوان أو شىء مملوك لديه، إن طاله منه أى أذًى؛ يتصرف معه بإلغائه، بقتْله، والزَّهو بفعله أيضا فى محيطه الذكورى.
تظل المرأة تُعامَل كإنسان نسبيًّا طالما لم تخرج إرادتها وسلوكها عن إرادة الرجُل وأهدافه التى تصب لصالحه دائمًا، فإن خرجت عن هذا الإطار بإرادتها، أو عدوانًا باغتصابها، نالت القصاص مباشرة، وقُتلت ماديًّا أو معنويًّا، وحتى إن لم تخرج عن هذا الإطار؛ تظل أيضًا فى نطاق ملكية الرجُل من خلال عدة تجليات: حيث لا يمكن إباحة التعدُّد على سبيل المثال فى الزواج إلا لو أن الثقافة بنسقها العميق تعتبر المرأة مِلكًا للرجُل، ولا تُقِيم لسوائها النفسى وكرامتها كبيرَ اهتمام، الأشياء المملوكة يمكن أن تعدِّدَها فى حوزتك، أما الكيانات الإنسانية المستقلة الحرة فلا يمكن أن تتجاوز مشاعرها وتتسبب فى إيذائها وتطغى عليها.
لم يزَل بعض الآباء يزوِّجون بناتهم، ويختارون لهن دون إرادتهن، تزويج الفتيات صغيرات- فى حد ذاته، وهن لا يملكن رؤية الاختيار وضمن التحايل على القوانين- يُعَدُّ نوعًا من الشعور الكامن بالملكية الضمنية للمرأة، نوعًا من العبودية!
قد يتصور البعض أن تلك الظواهر وغيرها لم تَعُدْ شائعة، لكنها فى الواقع لم تزَل موجودة، وتقع لشرائح من الطبقة الوسطى والدنيا، أو الطبقة الوسطى المرتفعة والعليا ضمن إطار الصفقات، أو تغلُّب النسق الثقافى الذكورى.
ما أعنيه أن الخلل الذى يجب الانتباه له، والسعى لمعالجته، كامن فى النسق الثقافى الجمعى العميق فى المجتمع، لا ظاهره الرسمى.
لماذا يقتلون النساء؟ لماذا يحكم حادث عارض فى حياة المرأة- ربما لا يشكل إلا دقائق فى حياتها- بقتْلها أو وصْمها بالعار طيلة حياتها؟ لماذا لا نحتكم إلى العقل والمعرفة وحقوق الإنسان، إلى قِيَم العدل والرحمة، وتفهُّم الطبائع البشرية ومتغيراتها، ونُعيد غربلة ثقافتنا التى هى مزيج من الموروثات: الاجتماعية من عادات وتقاليد قديمة، والدينية من حلال وحرام، ورؤى اقتصادية – سياسية تجاوزتها حركة التاريخ؟ لماذا علينا أن نصمت تجاه هذا الظلم البيِّن، وألا نبحث- كمجتمع على قدْر من الوعى والتفهُّم- حول إعادة النظر فى كل ما يتعلَّق بالمرأة، ووضْع قوانين منظِّمة لتلك الحالات، وإيجاد طُرُق أخرى لمعالجة هذه الوقائع التى تجاوزتها معظم الحضارات الأخرى، وتفهَّمتها وقنَّنت أوضاعها؟ حيث تقع هذه العلاقات فى النظر الإنسانى العقلانى تحت توصيف لحظات الاندفاعات الطبيعية للغرائز والرغبات، دون أن يستدعى الأمر قتْلًا، وعلينا دومًا أن نتوقَّف عند منطقة أن المرأة فقط هى التى يُراق دمها، لماذا رغم أن الفعل ثنائى يعفون عن الرجُل فى العقل الجمعى كأنه لا يمتلك إرادة، ولم يقترف ذنبًا، أو ذنْبًا مخفَّفًا حيث وقَع تحت سلطة الغواية، وللمرأة يَسِنُّون سيوفهم البتَّارة؟ الأمر الأكثر خطورة وقوع هذه الظلال من الثقافة الاجتماعية بأسطوريتها على تفسيراتهم للرسالات الدينية، ثم على بعض البنود فى القانون الوضْعى.
لو أن قتْل النساء طيلة القرون الماضية كان نتيجته انتهاء ظواهر الاغتصاب، أو انتفاء وجود العلاقات الجنسية غير المقنَّنة، أو الحد منها، ربما كان للبعض مسوِّغ للاستمرار فى تلك الظواهر الدموية غير الإنسانية، بالرغم من أن القتل لا مبرر له على الإطلاق.
علينا عوضًا عن هذا الإجرام والتعدِّى على حق المرأة فى الحياة أن نشتغل على إعداد شخصها بعناية، وغرْس المنظومة الأخلاقية التى تحافظ على كيانها حُرًّا ومسئولًا، توعيتها بمسؤولية اختياراتها، ومناقشة نتائجها، وقتها فقط أتصور أنها فى حالة خضوعها لموقف قد يتحكَّم فيه الضعف البشرى؛ ستقدِّر كل الحسابات، وتعيد التقييم مرَّات؛ ليأتى فِعْلها مُعبِّرًا عن إرادتها أولًا، وتتحمل نتائجه ثانيًا، ولن تترك شعورًا عرضيًّا يكبِّلها طيلة عمرها، سواء تَمثَّل فى تربية طفل وحدها دون شريك، مع كامل مسؤوليتها المادية والتربوية تجاهه، أو أن تعيش مع رجُل فرضته على نفْسها وحياتها جرَّاء لحظة ضَعف.
يتعين أن نعيد مناقشة تلك القضايا إعلاميًّا بطُرُق هادئة، وخلخلة تلك التابوهات المتكلِّسة التى أحاطت قضايا المرأة، ولطرْح بدائل لمعالجة هذه الحالات تحافظ على حياة المرأة مثل: دور رعاية لتعيش فيها النساء اللاتى يتعرَّضن للعنف من عائلاتهن، دون أن يُراق دمها أو سمعتها، وإلزام الجميع بصِيَغ قانونية تفارق التعصُّب القَبَلِىّ، ومنظومة العيب وغسْل العار، والثأر للشرف. ونستكمل مع ملاحظة أن هذا الطرح لا يستهدف صدامًا، أو حَضًّا على عشوائية العلاقات؛ لكنه يعالج وقائع تحدُث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى