المنظمة العربية

كيف نؤسس لترسيخ الوعى وثقافة الحياة؟

د. أماني فؤاد
انتابتنى الحسرة فى كل يوم، طيلة شهر رمضان أثناء مشاهدة مسلسل (الاختيار2)، الغضب والقشعريرة والدموع وأنا أرى الدماء المصرية الغالية تسيل بلا منطق فى التحليل العميق لكل تلك الأحداث التى مرت على مصر، وتداعياتها وما يكمن فى جوهرها من أيديولوجيات تجسِّد أمامنا العنف والمغالطات الفكرية لتلك الجماعات الضالة الإرهابية مرَّة أخرى ومرَّات.. فلقد أنعش المسلسل الذاكرة، وأعاد استحضار الأحداث الدامية المخيفة والسنوات السوداء التى عاشتها مصر عندما قفز الإخوان على الثورة وحُكْم مصر وما بعد ذلك من أحداث.
فى كل حادثة قتْل وتفجير وتصفية لمجموعات من جيش مصر وشرطتها ومواطنيها؛ تساءلتُ: لماذا؟ لماذا يُقتل أبناء مصر وشبابها؟ لماذا تتوالى حوادث استنزاف وطننا العريق متعدد الحضارات، ولا توجَّه قوى أولاده جميعهم للتعايش والبناء والمعرفة والتحديث؟ لصالح من؟ ولأجل ماذا؟!.
ففضلا عن موت الأبطال من الشرطة المصرية والجيش، الذين يحافظون على قوام الدولة القومى ويبذلون من أجلها أرواحهم عن طيب خاطر، وفى أعلى درجات البطولة، يموت ويُسجن ويهرب شباب آخَرون مصريون تلاعَب بعقولهم البعض، وأفسدوا وعيهم بخطابات فاسدة مغلوطة تفتقر للعقل أو المنطق، فتاوى ورؤى ومؤلفات ودروس دينية تَرَكَتهم أحزمة ناسفة، وقنابَل موقوتةً، ومدافع آر. بى. جى، حوَّلتهم لأدوات قتْل وهدْم وخراب لأنفسهم ولأوطانهم.
لم أَزَلْ على يقين – كما كتبت كثيرًا – بأن الحلول الأمنية – بالرغم من دورها العظيم الذى نثمِّنه جميعًا – لن تكفى وحْدها للقضاء على ظاهرة الفكر المتعصب والإرهاب الذى لم تَزَلْ تواجهه مصر وبعض الدول العربية!. جميعنا بلا شك لا نتمنى عودة تلك الأيام، ونأمل أن تنقضى تماما، لكن المنطق ورصْد الواقع يقول ألَّا نضع رؤوسنا فى الرمال، حيث لم تَزَلْ فى المجتمع شرائح تؤمن بأفكار هذه الجماعات المتطرفة أو تتعاطف معها.
ويتصدر المشهد – أمام عينى وذهنى – السؤال الأهم: كيف سنقاوم توجهات الإسلام السياسى المتطرفة؟ كيف نستأصل هذا العنف وتكفير الآخَر وتصفيته؟ كيف نواجه ثقافة الموت والاستشهاد التى تسيطر على عقول تلك الجماعات الإرهابية بثقافة الحياة وتنميتها وتطويرها؟!.
هناك محوران رئيسان أودُّ الإشارة إليهما، عدا المحور الأمنى الذى يتعامل رجاله الشجعان مع العناصر والجماعات الإرهابية التى تظهر على سطح المشهد: الأول محور التنمية المستدامة، والثانى المحور الثقافى.. والثلاثة يتعين أن يتم تنفيذ مخططاتهم بالتوازى معًا؛ لنلمس ثمار نتائجهم.
تشهد الدولة المصرية نتائج على الصعيد الخدمى والتنموى وتطوير البيئات العشوائية بشكل متصاعد، فيما لم نَرَهُ طيلة أكثر من نصف قرن كامل، وهو ما يُحسب لإنجازات الرؤية السياسية والإدارة الحالية، لكن لابد أن يلمس المواطن نتائج التنمية على تفاصيل حياته من تعليم وصحة وخدمات، وهو ما سيجعله يشعر بالاستقرار والأمان، ويدفعه لأن يحب وطنه، ويقدِّر الجهود التى تُبذل فيه، ومن ثم ينتمى إليه ويشعر بالمسؤولية تجاهه؛ فيعمل هو الآخَر بجهد وإخلاص، ولا يعود ناقمًا أو حاقدًا على المجتمع والدولة وحكوماتها ومؤسساتها.
يحتاج الشباب مشاريع التنمية المستدامة، المشروعات الكبرى القومية، وأيضا المشروعات الصغرى التصنيعية والزراعية والتجارية، وهو ما يرفع مستوى معيشة الأفراد والمجتمع؛ فيتباعد شبَحُ التطرف ويضمحل، فبالرغم من أن تدهور الوضع الاقتصادى ليس سببًا مباشرًا للإرهاب والعنف؛ إلا أنه أحد الأسباب التى تَدفع إليه، فحين لا يجد الفرد حياة يقدِّرها ويثمِّن وجوده فيها يستهين بكل شىء.
ويعد المحور الثقافى وإعداد الوعى البشرى العقلانى أحد أهم المحاور الثلاثة، وإذا تساءل البعض لماذا؟، لكانت الإجابة أن الأفكار التى تعبِّر وتتراكم وتستقر داخل الإنسان تشكِّل وعيه العميق، ومن ثم هى التى يتشكَّل منها سلوكه وتنبنى أداءاته، هذه المعارف والعلوم والفنون تصبح أهم وأكثر استمرارا من القرارات الفوقية التى تُفرض عليه؛ فيُقاوِمها دون أن يدرى، فكل ما نقتنع به بلا إملاءات هو الذى نمارسه بعمق ويستمر ويتنامى، هذا المشروع الثقافى لن نستطيع خلْقه وإعداده إلا إذا تكاتف التعليم الذى يخلُق ويُعِد العقل الناقد المبدع القادر على التطور المستمر، والإعلام الواعى بقضايا الإنسان الحقيقية غير الموجَّه ولا الاحتفالى؛ بل الذى يعرِض ويحلِّل ويواجه مشاكل الإنسان الحقيقية من خلال مناخ من الحريات: حرية التعبير وممارسة الحياة السياسية من خلال الأحزاب؛ لخلْق معارضة تتسم بالنضج؛ ليعمل الجميع لصالح هذا الوطن.
بعد ثورة 30 يونيو، كتبتُ أن لدينا فى كل المدن والقرى المصرية قصورًا للثقافة تابعة لوزارة الثقافة، ومراكز للشباب تابعة لوزارة الشباب والرياضة، وهى المواقع التى تغطى أرض الوطن جميعه تقريبا، علينا الدفع بإدارات جديدة مبدعة تنويرية فى كل هذه القصور والمراكز بعد إعطاء من يتصدَّى لتلك المهمة الوطنية دورة إعداد لمعرفة الأهداف التى تُرجى منهم؛ لخلْق منارات ثقافية يتحرر فيها إبداعات الأطفال والشباب، المرأة والرجُل، وذلك لتنمية مناخ ثقافى يقِظ وحقيقى ومسؤول، ولن يتأتَّى هذا لمدير كل قصر ومركز إلا إذا فَارَق موقع الموظف الإدارى النمطى لموقع المحب المؤمن برسالة الثقافة وتحرير الطاقات الإبداعية المختلفة عند الأفراد، خلْق حالة من وهَج المعرفة والتطلُّع إلى التطوير ودفْع الأشخاص للإبداع، وذلك من خلال المكتبات والقراءات المتعددة المجالات فيها، من خلال تشجيع الأطفال على ممارسة الرسم والنحت، من خلال شاشات سينمائية وعَرْض المحتوى القيِّم ومناقشته مع مرتادى المواقع، من خلال الكتابة والتمثيل والعروض المسرحية، من خلال الرحلات ومعرفة التعدد الحضارى الذى تتسم به الأمة المصرية. ونستكمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى