لا موائد ولا احتفالات.. اللبنانيون يستعدون لرمضان بجيوب خاوية
يقرع شهر رمضان أبواب المسلمين في لبنان وهم في أسوأ حال، فقر يحاصرهم وغلاء يضاعف معاناتهم، أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية تراكمت منذ ثلاث سنوات وسط عجز السلطات اللبنانية عن ايجاد حلول لها، ليزيد الاجتياح الروسي لأوكرانيا الطين بلة حيث تسبب بارتفاع إضافي للأسعار لم يكن بالحسبان.
اللبناني محبط من كل الجوانب، لا يعلم كيف سيستقبل الشهر الكريم بجيوب خاوية، لاسيما كما قالت ريان بكري (والدة لثلاثة أبناء) بسبب “عودة ارتفاع سعر صرف الدولار الذي تجاوز الـ 25 ألف ليرة للدولار الواحد، وذلك بعد استقرار دام لأسابيع عند عتبة الـ 20 ألفا”، وأضافت أن “المضحك المبكي أنه ظهر فجأة ارتباطنا الوثيق بأوكرانيا حيث أصبحت الحرب الدائرة على تلك الأرض حجة التجار لتبرير غلاء بضائعهم”.
شراء مونة شهر رمضان كما قالت ريان أصبحت من الماضي بسبب أسعارها الجنونية وشرحت “لا يمكنني حفظ كميات من اللحوم والدجاج سواء تعلق الأمر بسعرها أو بمشكلة انقطاع التيار الكهربائي، إذ بكل بساطة قد تفسد كون كهرباء الدولة بالكاد تصل ساعة في اليوم، في وقت قد ينقطع تيار المولد الخاص لساعات من دون أن يكلف صاحبه عناء تقديم المبررات للمشتركين”.
يشهد لبنان منذ صيف 2019 انهيارا اقتصاديا متسارعا، حيث فقدت “العملة المحلية حوالي 82 في المئة من قوتها الشرائية مقابل الدولار، ما بين عامي 2019 و2021” بحسب ما أعلنته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا”.
وفي شهر سبتمبر الماضي أشار تقرير لـ”الإسكوا” إلى أن “الفقر تفاقم في لبنان إلى حد هائل في غضون عام واحد فقط، إذ أصبح يطال 74 بالمئة تقريبا من مجموع السكان، وإذا ما تم أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 بالمئة”.
ومع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا تأثرت المواد الغذائية الرئيسية كالقمح والحبوب والزيت، فارتفعت أسعارها مع التلويح بفقدانها من الأسواق، وللحد من تأثيرات الحرب المدمرة أعلنت السلطات اللبنانية اتخاذها قرارا لحظر تصدير لائحة من المواد الغذائية المصنعة في لبنان إلا بعد حيازة إجازة تصدير صادرة عن وزارة الصناعة.
وزير الصناعة جورج بوشكيان أكد أن “قرار الوزارة يأتي في إطار رؤية بعيدة المدى للمحافظة على حد مطلوب من المخزون الاستراتيجي الغذائي تحت سقف سياسة الأمن الغذائي الواجب التمسك بها وعدم التفريط بمكوناته وبحاجات الناس الأساسية والضرورية”.
وأكد أن “الأزمة العالمية قد تطول ولا أحد يمكنه التوقع بتاريخ انتهائها ولا بالأضرار والانعكاسات التي ستخلفها في الدول والمجتمعات”، قائلا “لذلك، يصب قرارنا في سياسة حمائية ورادعة ومانعة لحصول نقص أو احتكار أو استغلال، ولا علاقة له بحرية التجارة أو الحد من التصدير الذي ما زلنا نشجّعه وندعمه إلى أقصى الحدود لسلع ومنتجات غير غذائية، حتى جلاء الأمور وعودتها إلى طبيعتها والسماح مجدّداً بتصدير كل السلع”.
صورة سوداوية
شهر رمضان له ميزة خاصة عند المسلمين، بحسب ما قاله المدير العام السابق للأوقاف الاسلامية، إمام مسجد الأوزاعي الشيخ هشام خليفة شارحا أنه “يحمل من المعاني الطيبة والمباركة الشيء الكثير، فقد لقبه النبي بصفات متعددة دليلا على عظمته وأهميته، إذ أطلق عليه الشهر العظيم والمبارك وشهر القرآن، لذلك يهتم المسلمون به حتى قبل حلوله فيشرعون بالتحضير المادي والمعنوي له”.
كان المسلمون قبل الأزمات التي يعيشونها والتغيير الاجتماعي والاقتصادي الذي حدث في فترة سريعة جدا منتجا معاناة عند كل المواطنين، يحتفلون كما قال الشيخ خليفة “ماديا بالشهر الكريم، بمعنى أنهم يخرجون زكاة أموالهم، لأنهم يتحينون رمضان رجاء الأجر الأكبر حيث أن الأعمال الطيبة في هذا الشهر يضاعف ثوابها، وأيضا يحضّرون المواد التي يستعملونها لمأدبة الإفطار والسحور، وكذلك يقومون بالتزيين احتفاء وبهجة وسرورا بقدوم رمضان، كما كانت تكثر الاجتماعات التي فيها ذكر والموالد النبوية في البيوت والمساجد”.
وأضاف أن “المسلمين في لبنان متأثرون كغيرهم من اللبنانيين بالواقع الاقتصادي، أموالهم محجوزة في المصارف، مدخول معظمهم لم يعد يكفي نتيجة التضخم وغلاء الأسعار وفقدان العملة الوطنية لقيمتها ما يؤثر على التحضيرات المادية من شراء الحاجيات والمأكولات والحلويات، وحتى إقامة الاجتماعات كونها مكلفة باعتبار يتم توزيع ما لذ وطاب خلالها على الحضور، كما أن تزيين الطرق والمساجد خف، فحتى اليوم لا نجد انتشار هذه المظاهر كما في السابق”.
أما فيما يتعلق بالجانب المعنوي والروحي، فهو لا يتأثر بحسب الشيخ خليفة بالوضع الاقتصادي، وشرح “ما يحضّره المسلم قبل رمضان هو التوبة الصالحة النصوح من الأخطاء التي ارتكبها قبل رمضان ليكمل الشهر الكريم بقلب طاهر وروح صافية وعزيمة المحافظة على عبادته فلا يخرقها لا بكذب ولا بغيبة ولا بشتيمة، يراعي حفظ اللسان والبصر”.
كذلك يقوم المسلم بحسب الشيخ خليفة “بقراءة ما يجب عليه من عبادات ليؤدي الصوم الصحيح، فيتعلم في مجالس العلم والعلماء والمشايخ دروس أحكام الصيام، ما يبطل وما يحافظ على الصوم، ويتحضر بهمّة لتنظيم أوقاته في رمضان والتي قد تختلف عن بقية أشهر السنة من سهر وقيام في وقت السحر المبارك للصلاة والتهجد والعبادة”.
اللبناني في وضع لا يحسد عليه، كما قالت ريان ” أسعار الغاز إلى ارتفاع كذلك الخضار فمن كان يصدق أن يأتي اليوم الذي يصل فيه سعر كيلو الخيار إلى 35 ألف ليرة والبندورة إلى 25 ألف ليرة، الزحمة التي كنا نتململ منها في السوبرماركت قبل رمضان اختفت، بالكاد سيتمكن اللبناني من شراء قوت يومه، من هنا أعتقد أن رمضان سيكون قاس جداً هذا العام وبالتأكيد موائد اللبنانيين لن تكون كسابقاتها”.
لا يتجاوز راتب زوج ريان 200 دولار، وقالت “بين بدل ايجار المنزل وفواتير المولد والانترنت والستاليت بالكاد يمكننا أن نشتري الحبوب، فاللحمة والدجاج والحلويات والفاكهة لم تعد من ضمن لائحة مأكولاتنا، فحتى البطاطا المقلية أصبحت مكلفة بعدما وصل سعر عبوة الزيت 7 ليتر إلى 670 ألف ليرة”.
كلام ريان أكدته الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية البروفيسورة، وديعة الأميوني، حيث قالت “منذ ثلاث سنوات واللبنانيون في حالة صيام نتيجة غلاء الأسعار واحتكار البضائع من قبل كبار التجار الذين يغدرون بأشقائهم المواطنين من أجل الربح المادي، فهؤلاء أفسد من الحكام” وأضافت “قتلت الأوضاع المتردية في لبنان الفرحة في قلوب مواطنيه، لا أحد يشعر بالراحة، اختلف شهر رمضان في هذا البلد نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، وربما تكون هذه السنة الأقسى منذ عقود على اللبنانيين”.
وشددت “بعد أن كان المسلمون ينتظرون الشهر الفضيل لكي يمارسوا طقوسهم الدينية والاجتماع على الموائد وتبادل الزيارات المنزلية ومساعدة بعضهم البعض تراجعت هذه الأعراف نتيجة الوضع المادي الذي يمرون به”.
فوضى شاملة
لا تعلم سلمى منيمنة كيف ستتمكن من تأمين طبخة بسيطة لعائلتها يوميا في رمضان لذلك كما قالت “الحديث عن التحضير للشهر الكريم كلام خيالي في ظل الوضع المالي الصعب، زوجي عاطل عن العمل، وأنا موظفة في محل لبيع الأدوات الكهربائية براتب ثلاثة ملايين ليرة أي لا يصل إلى 150 دولارا، أعيش في منزل صغير ورثه زوجي عن والده، فحتى اشتراك المولد الخاص اضطررت إلى ايقافه لعجزي عن دفع الفاتورة”.
منذ سنتين لم يعد بمقدور سلمى شراء الدجاج الذي يبلغ سعر الكيلو منه 85 ألف ليرة واللحوم التي تجاوز سعر الكيلو منها الـ270 ألف ليرة، كذلك الجبن لاعداد السمبوسك، مشددة “لنتمكن أولاً من شراء السكر والزيت والطحين بعدها نفكر بالبقية” وعن زينة رمضان قالت “شراء الأولويات أصبح حلماً فكيف بالكماليات، في القلب غصة كبيرة على الحال الذي وصلنا إليه”.
“في السنوات العادية حين كان لبنان ينعم بالاستقرار كانت الأسعار ترتفع قبل وبداية شهر رمضان ما بين 10 إلى 20 بالمئة لاسيما الخضار والفاكهة والحلويات والزيوت، فكيف الآن في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار وأزمة المواد الأولية وانعكاسات الحرب الأوكرانية والوضع المتفلت” بحسب ما قاله الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين.
وأضاف “إذا كان من المبكر تحديد الكلفة ومدى انعكاس الأسعار على قدرة المواطنين، إلا أنه من المؤكد أن أي ارتفاع لسعر صفيحة البنزين سينعكس على النقل وتالياً على كل الأسعار”.
يمر لبنان بحسب رئيس جمعية “حماية المستهلك زهير برو “في حالة فوضى شاملة، لا أسس ولا معايير للوضع، كل ما يتداول عما ستكون عليه الأسعار في رمضان مجرد تأويلات، قيل أنها انخفضت في الأسابيع الخمسة الأخيرة نحو 3 بالمئة، لكن قبل ذلك كانت قد ارتفعت نحو 42 بالمئة، ومنذ بدء الأزمة الاقتصادية حتى الآن ارتفعت الأسعار ما بين 20 و25 ضعفاً، والآن نشهد ارتفاعاً قياسياً لبعض السلع، كل متجر يسعّر بضاعته بحسب أهوائه من دون حسيب أو رقيب”.
سبق أن وصف البنك الدولي أزمة لبنان بأنها “الأكثر حدة وقساوة في العالم”، مصنفاً إياها ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر، حيث تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية لمستويات غير مسبوقة، في وقت يعجز فيه اللبنانيون عن سحب أموالهم من المصارف بسبب قيود ناتجة عن شح السيولة.
وفي تقرير لـ”اليونيسف” صدر في شهر يوليو الماضي، تبين أن “أكثر من 30 في المئة من أطفال لبنان ينامون ببطون خاوية، لعدم حصولهم على عدد كاف من وجبات الطعام، في حين لا تملك 77 في المئة من الأسر ما يكفي من غذاء أو مال لشراء الغذاء”.
ضربت الحرب الروسية الأوكرانية كما قال البروفيسور عجاقة “سلسلة التوريد في وقت يتكّل فيه لبنان بشكل كبير على قمح ومحروقات وحتى زيوت أوكرانيا” مضيفا قوله: “إذا كان اللبنانيون لمسوا صعوبات وارتفاعا في الأسعار خلال أشهر رمضان الثلاثة الماضية فإن هذه السنة سيكون الوضع أصعبا، فقبل ذلك لم يكن العالم قد شهد بعد الحرب الروسية وكان قد سيطر على جائحة كورونا بواسطة اللقاحات كما كانت الدولارات لا تزال متوفرة في لبنان”.
وأسف عجاقة كون اللبنانيون متروكين لمصيرهم، “فالحكومة لم تتخذ اجراءات كافية لاستدراك أزمة القمح والمواد الغذائية وارتفاع الأسعار، وأغلب الظن أن استراتيجيتها ترتكز على المساعدات لاسيما من دول الخليج، ما يعني أنها دولة فاشلة كونها تعجز عن تأمين الطعام لشعبها”.
فقدان السيطرة
وصلت أسعار الخضار إلى أرقام لم يشهدها لبنان في تاريخه، فسجل كيلو اللوبياء على سبيل المثال 120 الف ليرة، ما دفع رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى التهكم بالقول إن “الحد الأدنى لراتب اللبناني بات يعادل خمسة كيلو لوبياء، في حين وصل سعر كيلو الكوسا إلى 25 ألف ليرة، والبندورة كذلك أما الخسة فتابع بـ15 ألف ليرة”.
تخشى، فاتن محمد، من أن يغيب طبق الفتوش عن مائدتها في رمضان، كون إعداده يتطلب عدة أنواع من الخضار، وقالت “بالتأكيد ستتخطى تكلفته الخمسين ألف ليرة ما يعني مليون ونصف المليون ليرة خلال شهر” وشددت “لن اشتري أي شيء استعدادا لرمضان، لا جلاب ولا مكسرات ولا ما يتطلبه اعداد الحلويات” وأضافت متهكمة “فرضت علينا دولتنا حمية غذائية كونها تخشى على صحتنا”.
ومع هذا تتأمل فاتن أن لا تحرم أولادها الأربعة مما تشتهي أنفسهم على مائدة الأفطار قائلة “هو شهر الخير والبركة والرزق من حيث لا يحتسب الإنسان، هذا ما يبرد نار حزني ولو قليلاً من الحال الذي وصلنا إليه”.
رد رئيس تجمع المزارعين والفلاحين في البقاع إبراهيم ترشيشي أسباب ارتفاع أسعار الخضار إلى العواصف التي تضرب لبنان قائلا “كأن القدر يرفض أن تسير الأمور بشكل طبيعي، فلا تكاد تنتهي عاصفة حتى يكون لبنان على موعد مع عاصفة جديدة، وكما هو معروف انخفاض درجات الحرارة يقضي على قسم كبير من الإنتاج، سواء في لبنان أو في سوريا التي يصلنا منها يوميا بضائع بصورة شرعية ومسهلة، إذ قلة من المزارعين يتمكنون من حصد مزروعاتهم وإرسالها إلى الأسواق وهي لا تكفي حاجة اللبنانيين وبما أن الطلب أكبر من العرض بالتأكيد سترتفع الأسعار”.
ترشيشي نفى بشدة احتكار أي من المزارعين للإنتاج، وطمأن اللبنانيين أن الأسعار ستنخفض بدءا من منتصف الشهر القادم، شارحا أن “نهاية هذا الشهر سترتفع درجات الحرارة بحسب النشرات الجوية، وفي 15 نيسان سيتم جني مواسم البقاع والساحل، ومن هذا التاريخ الى أوائل شهر مايو سيصبح لدينا انتاجا غزيرا يكفي كل الأسواق المحلية بأسعار مرضية للجميع”.
موعد شهر رمضان هذه السنة قريب كما قالت الأميوني من موعد صيام المسيحيين الذين يتبعون التقويمين الشرقي والغربي، متمنّية أن “يصلّوا جميعا لخلاص لبنان واللبنانيين من المحنة التي نمر فيها كون لم يعد لدينا ثقة بالسياسيين البعدين كل البعد عن وضع خطط تنموية ونهضوية”.
أما عجاقة فاعتبر أن “تنظير الحكومة الإعلامي لم يعد كاف، فليس المهم أن تجتمع ما لم ينعكس ذلك نتائجا على الأرض، الوصفة التي تعتمدها لم تعد تجد نفعا وعليها وضع استراتيجية خاصة بشهر رمضان، وإن كنت أعتقد أن الأمل بذلك معدوم وأن الواقع يؤكد أنها فقدت السيطرة على الوضع”.
يعيش اللبنانيون كما قال برّو “في مجتمع متوحش ليس له ضوابط ولا قوانين، كل الأطر الموجودة من مجلس نواب إلى مجلس وزراء وقضاء مجرد هياكل عظمية لا وجود حقيقي لها ولا تؤثر مطلقا في حياة اللبنانيين”.
ولا حل بحسب برّو “سوى بتغيير النظام السياسي والاقتصادي في البلد، فلا يمكن انتظار الخلاص ممن أوصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم، فجميع من في السلطة لا يمتهنون سوى سياسة الترقيع وتركيب الطرابيش وهذا ما يقومون به منذ الانهيار حتى اللحظة، في وقت اعتاد فيه اللبناني على تدبّر أموره، ففي كل الأزمات لم يأخذ بعين الاعتبار وجود دولة فحتى في ظل الحرب الأهلية تأقلم مع الوضع