أخبارمقالات وآراء
ملحمة كبريت
انتهت الحرب وعاد الرجال إلى ديارهم واهلهم تباعا ولم يعد أخي أحمد فقد تم وقف إطلاق النار ومضى شهر والثاني والثالث ومازال البحث جاري من باقي اخوتي الذين شاركوا في الحرب ولم يجدوا اسمه بين الشهداء او حتى في الجيش الثالث الذي كان يؤمن مدينة السويس حيث منع اقتحامها من القوات الإسرائيلية التي تسللت عبر الثغرة…الى ان اتضح انه ضمن اربعمائة من المقاتلين المحاصرين في موقع كبريت شرق القناة وهو ذلك الموقع شديد التحصين والذي استولت عليه الكتيبة ٦٠٣ من مشاة الأسطول والتي حاولت قوات العدو استرداده باستماته استخدمت فيها القصف بالطيران بمئات الاطنان من مادة تي ان تي بغارات متتالية وهجوم مدفعي بعد ان فشلت في اقتحامه بالدبابات حيث تم تدمير عدد كبير منها في أول هجوم بفضل تفخيخ المساحة حول الموقع والذي ل اتزيد مساحته عن كيلو متر مربع وهو محاصر من كل الاتجاهات ولا يوجد الا المنفذ المطل على البحيرات المرة وقد استولى الرجال على هذه النقطة يوم ٩ أكتوبر ١٩٧٣ بعد معركة شرسة وظل العدو متمرس حولها يريد استعادتها باي ثمن وظلت رحى المعارك تدور إلى أن استشهد المقدم محمد أمين مقلد ليلة ٢٣ أكتوبر وفي نفس اليوم استشهد الرائد نور المسئول عن الاتصالات وتولى المقدم إبراهيم عبد التواب قيادة الكتيبة ولم يكن هناك وسيلة اتصال بقيادة الجيش الثاني إلى أن تم الدفع بعنصرين بقارب مطاطي للوصول إلى قيادة الفرقة السابعة حيث المشير احمد بدوي والذي كان برتبة عميد وقتها والذي سطر ملحمة تاريخية استحق عنها ترقية استثنائية ليصبح قائد الجيش الثالث فيم ابعد… وقد احضروا جهاز لاسلكي ليستطيع قائد الموقع التواصل وابلاغهم بضرورة إخلاء ٤٢ جريح …وقد راهن العدو على نفاذ ذخيرة الموقع أو امدادات الطعام والمياه ولكن الرجال اكتشفوا طريقا يصل طوله إلى ٧ كيلومترات استطاعوا من خلاله إخلاء بعض الجرحى على نقالات مشيا على الاقدام والعودة ببعض المواد الغذائية وجراكن المياه على النقالات إلا أن العدو اكتشف الطريق وقصفه…ورفض القائد الاستسلام بعد أن عرضوا عليه الخروج بسلاحه وأصر على الصمود واعتبر أن هذه الحفنة من التراب تحمل شرف مصر ..فقد كان رجلا بسيطا جدا وقليل الكلام وشديد الالتزام ولكن الموقف اظهر فيه روح القيادة وقوة العزيمة وصبر المؤمن مع شدة التواضع فقد كان يمر على الرجال واحدا واحدا وبسمع لكل صغير وكبير وعاش معهم الأيام الصعبة يقتسم القوت بربع علبة فول وربع باكو بسكويت وربع لتر ماء لكل مقاتل سواسية طوال اليوم وعليهم الاستحمام أسبوعيا بمياه البحيرات ودعك جسمهم بطينه وتحلية أجسامهم بنصف زمزمية مياه وعندما دفع الجيش الثالث بقاربين من المطاط عبر القناة حيث كانت المسافة بينه وبين الضفة الغربية هي الاضيق في عرض القناة وهي حوالي ٥٠٠متر..زاد التعيين إلى علبة فول وعلبة خضار وعلبة مربى لتقسم على يومين ثم على أربعة أيام.. وكانت دائما تعليماته إلى الرجال انه اذا اطلق علينا العدو رصاصة يجب أن نرد بعشرة واستمر تبادل إطلاق النار وتم التصديق على نقل الجرحى بطائرة تتبع الصليب الأحمر ولكنه رفض وأصر على علاج من تبقى بإمكانيات الموقع حيث كان الطبيب محمد عبد الجواد يقوم بذلك رغم اصابته ومازالت هجمات العدو مستمرة ومكثفة خاصة يوم ١٦ أكتوبر مع محاولة العدو أحداث ثغرة في مفصل الجيش الثاني والثالث حيث أصيب يومها المقدم محمد أمين مقلد ورفض الإخلاء وعصب رأسه ليستشهد بعد ذلك ليلة ٢٣ أكتوبر…وعندما اشتد الحصار وانقطع الإمداد لدرجة انهم عاشوا يومين كاملين على الماء فقط وصل قارب مطاط يوم ٥ نوفمبر يحمل الإمداد لتنفرج الغمة قليلا وبدأت تظهر مشكلة النقص الحاد في المياه إلى طلب القائد من الملازم او الاحتياط محمد نور الدين أن يستخدم العلوم والكيمياء التي درسها فها هي المياه أمامنا مالحة ونكاد نموت عطشا…والذي قدح قريحته ليستخدم خط أنابيب قديم مع بعض التنكات وخراطيم الدبابات وقام الرجال بالحفر واستخراج فلنكات خط السكة الحديد القديم واشعلوا فيها النار لتسخين مياه القناة واستقبال الماء المقطر ولكن التجربة فشلت في البداية ثم اعادوا التجربة باستخدام كمية مياه اقل فنجحت وكان يوما مشهودا في عبقرية الانسان والمكان فالحاجة ام الاختراع… وبعد خمسين عاما من هذه التجربة الناجحة يستطيع نفس الشخص وهو الآن الدكتور محمد نور الدين الخبير بالأمم المتحدة اسداء النصح بتفاصيل التجربة عن طريق صديق له ويرسلها إلى أهلنا في قطاع غزة وهم تحت نيران نفس العدو ليستطيعوا تقطير مياه البحر والشرب بعد أن قطع عليهم العدو كل مقومات الحياة وما اشبه اليوم بالبارحة… لقد كان الشهيد إبراهيم عبد التواب نموذجا في القيادة ففي يوم العيد وزع ترفيه على القوات بمزيد من حصة الغذاء وفوجئ المسيحيين انه يفعل ذلك يوم ٧ يناير وقد كان قد خصص مربعا من الرمال كمسجد للصلاة وفي نفس المكان كانت صلاة الجنود المسيحيين وكان ديدنه نحن نعبد رب واحد …وقد كان يخطب الجمعة ويؤم المصلين ويجلس مع الرجال لقراءة القران وتفسير بعض الآيات…وقالوا انه لم يتكلم عن نفسه يوما الا في ليلة سرح خياله وهو يحكي لزملاء الملجأ انه اخر مرة رأى فيها أولاده منى وطارق وخالد قبل الحرب بثلاثة إيام حيث قبلهم فجرا وهم نيام ليعود إلى موقعه وكان ليلتها يغلف لهم كراسات المدرسة…ترى أين هم الان؟ وكيف أصبحوا؟ وفي يوم ١٤ يناير تحدث اشتباكات عنيفة وكان الرجل في المقدمة بين جنوده واصابته قذيفة هاون استشهد على اثرها وتولى المقدم محمد سعد الدسوقي قيادة الموقع بعد أن وارى رفيق رحلته التراب بعد أن احتضنه بقوة حضن الوداع…وتشاء الاقدار ان تكون هذه القذيفة اخر دانة تطلق على الموقع فقد انسحب العدو بعد أيام بموجب اتفاق فك الارتباط بناء على المحادثات التي كان يقودها الفريق الجمصي وقتها وباتت تعرف بمحادثات الكيلو ١٠١…وغادر الرجال الموقع مرفوعين الرأس بعد أن اذهلوا العدو بصمودهم ويقال انهم حيوهم بإطلاق الرصاص في الهواء… ودخلوا السويس في موكب مهيب واحتفال كبير ولكن الإسكندرية اعدت لهم استقبالا تاريخيا فقد حمل الالاف سيارات الجيب بمن فيها لمسافات…وظل كبريت رمزا للشرف والعزة والكرامة لتحكي عنه الأجيال تلو الأجيال كيف استطاع الرجال الذين خرجوا من اصلاب هذا الشعب أن يعبروا بنا الجسر من الامل إلى الانتصار ومازالت حكايات الابطال تترى