وليمة فاخرة لأكلة لحوم البشر
لماذا الاصرار على سقوط آخر حجر في سوريا؟
ثم يأخذ الاميركيون بنظرية بعض العرب الذين ما زالوا يعيشون معادلة داحس والغبراء، ويقررون اعطاء صواريخ مضادة للطائرات وللدبابات الى «المعتدلين» من اجل التوصل الى توازن ما (التوازن الخلاق) يشق الطريق امام المفاوضات التي تفضي الى تشكيل الهيئة الانتقالية.
كم يبدو ريتشارد هاس دقيقاً وساخراً (وساحراً) حين يقول «كما لو انك تصنع وليمة فاخرة لأكلة لحوم البشر»، حتى ولو وضع البنتاغون بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية تلك الشروط والاجراءات التقنية الشديدة الحساسية للحيلولة دون انتقال الاسلحة النوعية الى «الايدي القذرة»، فهل استذكر تشاك هيغل ما قاله احد كبار مستشاريه ديفيد شيلد حول انتشار اكثر من 1200تنظيم مسلح في سوريا؟
لا ريب ان مئات ملايين الدولارات قد انفقت لاقامة «الجبهة الاسلامية» التي مهما اتقنت لعبة الاقنعة لا يمكنها ان تخفي ان من يقودونها ينتمون الى ثقافة السواطير، ولا ريب ان مئات ملايين الدولارات انفقت لتصنيع ذلك الكوكتيل العجيب من التنظيمات والفصائل التي لا مجال البتة لوصفها بالمعتدلة اذا ما اخذنا بالاعتبار اداءاها الايديولوجي (الفوضوي) على الارض.
ولا ندري ما اذا كان الاميركيون يدركون, ولا شك انهم يدركون، ان تلك الخطوة ارتبطت بذلك السيناريو الجهنمي, اي استجلاب مئات الجنود السابقين (دون سن الاربعين) من باكستان وبعض بلدان آسيا الوسطى، وصولاً الى القوقاز على اساس ان هؤلاء سبق وقاتلوا ضد تنظيم القاعدة ومشتقاته, وانهم قادرون على مواجهة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) بعدما سعى البعض طويلاً لاظهار «جبهة النصرة» على انها من انتاج ابي ذر الغفاري او من انتاج ايف سان لوران لا من انتاج من قطعوا رأس الاسلام قبل قطع رؤوس المسلمين.
المرتزقة وشذاذ الآفاق القادمون من كل حدب وصوب هم الذين سيغيّرون، وعلى نحو دراماتيكي، الواقع الذي على الارض من اجل الاعداد للهيئة الانتقالية، كما لو ان التجارب السابقة لم تظهر التلازم المثير بين وحشية هؤلاء وهشاشتهم، فضلاً عن قتالهم اما من اجل الدم للدم او من اجل المال الذي يرتدي العباءة الايديولوجية اياها.
بطبيعة الحال لم يكن احمد الجربا اكثر من واجهة (من الزجاج او من القش) للذين ما زالوا يتعاملون، وحتى في باريس ولندن، قبلياً مع الازمة في سوريا، فالثابت، كما يكتب اكثر من معلق اميركي، ان الغاية من قصة الاسلحة النوعية هو الاستدراج التدريجي لواشنطن من اجل التورط المباشر في الحالة السورية ان في عهد باراك اوباما او بانتظار من يحل محله, حتى ولو كانت هيلاري كلينتون، وليس اي شخصية جمهورية، هي المرشحة للعودة الى البيت الابيض. هذه المرة ليست زوجة الرئيس بل رئيسة الرئيس.
الذين اعدوا السيناريو اياه على بيّنة تامة من ان «الجيش السوري الحر»، بتشكيلاته الكاريكاتورية، لا يستطيع مواجهة «داعش» ولا «النصرة»، ولا «الجبهة الاسلامية» ايضاً. حينذاك لا بد ان تعلو الصرخة بل لا بد ان يعلو الصراخ في باريس ولندن وانقرة فضلاً عن عواصم عربية مؤثرة من اجل تدخل اميركي، وعلى الطريقة الافغانية، لتدمير ذلك الوحش الذي يهدد بقاء الحلفاء في الشرق الاوسط وفي الغرب الاوروبي.
خطتهم وضع اليد على كل حلب. لا بأس ان تكون المدينة التي طالما شكلت النموذج الصناعي الفذ، وهي التي كانت احدى المحطات الكبرى على طريق الحرير، بقبضة ابي بكر البغدادي ووصيفه ابي محمد الجولاني، بمؤازرة مباشرة من رجب طيب اردوغان كما حدث في مدينة كسب وجوارها، فالمهم الا يبقى النظام هناك.
هذا يتزامن مع خطة لاحتلال نصف دمشق، مع ان كل المؤشرات تظهر ان هذا بات ضرباً من المستحيل. اليس هناك في لبنان من يشيع، وفي الغرف المقفلة، بأن تطورات مثيرة ستحدث في سورية (متى وكيف؟)، وتؤثر استراتيجياً في المشهد اللبناني، دون اي اعتبار لسقوط الرهان في اوقات سابقة، ودون اي اعتبار لكلام الأخضر الابراهيمي الذي دق ناقوس الخطر لان الحرائق التي في سوريا من النوع الذي ينتقل اما على ظهر الهواء او على ظهر التاريخ، كما كتب ديفيد ميتشوم.
الم يكن هناك من حذر، حتى في واشنطن، من ان وجود المجموعات الاصولية على حدود لبنان، مع تناسل خلاياها ان على المستوى العملاني او على المستوى السيكولوجي في الداخل اللبناني، لا بد ان يحّول الجمهورية السعيدة الى مستنقع للرماد؟
حدث ما حدث على الارض وحيل دون البرابرة ووضع اليد على طرابلس، بل وعلى بعلبك وزحلة وغيرها وغيرها بعدما راح البعض يزف البشرى (الى من يهمه الامر) بأن «ساعة التحرير» قد دقت. ساعة ابي جعفر الليبي ام ساعة ابي مصعب الزرقاوي؟
هل يعني هذا الا مجال لانقشاع اقليمي وشيك لا بد ان ينعكس على المشهد اللبناني؟ ثمة رهان جلي على زيارة امير الكويت الشيخ صباح الاحمد الصباح لطهران، وهو الذي يدرك ما يعنيه استمرار مطحنة الدم (ام مطحنة الرماد؟) في سوريا بالنسبة الى المنطقة التي توقعد برنارد لويس ان تنشأ فيها 34 دولة ودائماً على اساس اتني او مذهبي او قبلي.
متى ننزل تلك الكمية الهائلة من الغباء عن ظهورنا؟.
نبيه البرجي
الديار