في عيد الام .. ست الحبايب يا”وهيبة”
قد تحس بينك وبين نفسك انك قد كبرت، وأصبحت مسئولا عن نفسك، وعن قراراتك، وأخذت زمام مستقبلك، ولكن تأكد تماما انك لم تكبر في عيون والديك، وخاصة أمك؛ فهي دائما حريصة أن تسمع أخبارك، وتسألك أو تسأل عنك، ولا ينهيها عن ذلك ضجرك أحيانا من كثرة السؤال.. فإذا سافرت تظل تتابعك، وتتصل بك حتى تصل، وإذا وصلت تطمئن على نومتك، ومأكلك حتى تعود.. وقد يضج البعض..”إنت بتتصلي بيا وأنا في وسط أصحابي وبتحرجيني؛ هوة انا لسه عيل”.. وتصمت ولا ترد، ولكنها تجاوب داخلها.. انك لسه في نظرها كده؛ مهما تكبر، وتتزوج، وتنجب.. ولما لا وأنت جزء من أحشائها التي زاحمتها لتسعة اشهر، وخليط من دمها وطعامها، وسحبت ما أردت من عظامها، وأثقلت مشيتها وأرقت نومتها.. وهن على وهن.. حتى حان وقت المخاض؛ الذي لا يقل ألما عن أشد أنواع المغص الكلوي، الذي يصرخ منه اعتي الرجال؛ بألم أسفل البطن؛ هو أقرب للمغص الحاد ليضرب أسفل العمود الفقري، ويرتد إلى الحوض، ويبدأ متباعدا ثم يتابع كل ثلاث دقائق، وتظل هكذا يوما أو بعض يوم، حتى تقذفك إلى الدنيا؛ فتظل تنهل من معينها حتى يشتد عودك.. فإذا أخذتك غفوة نوم تصحوا لتجد فوقك غطاء.. وإذا الم بك مرض لا تجد في الدنيا أحدا يهتم بك قدر أمك، فهي المريض، وهي الدواء، وصاحبك في وقت الشدة، وتفرح بك في وقت الرخاء، وتظل هكذا حتى تكبر وتصبح رجلا أو فتاة..
هكذا كانت الحاجة وهيبة “ياسمين”، فقد عدت يوما في أجازة العيد، وأنا طبيب امتياز.. وقد لاحظت أنني لا ارتدي غير طاقمين من الملابس، وهذا ما حملته شنطتي “الهاند باج”، ونظرا لأنها تعرف أنني أتقاضى مرتب ضخم”٤٥جنيها”، وهو ما لا يكفي وجبة العشاء طول الشهر تقريبا.. فأوعزت إلى أختي رحمها الله أن تأخذ طاقما منهم، وتذهب إلى احد المحلات المشهورة بالعريش لتشتري طاقما جديدا، وعندما عدت متأخرا؛ حيث كنت اقضي سهرتي مع رفاق الصبا الذين قد تخرجوا ويعملون في سيناء، أو من عاد من الطيور المهاجرة لقضاء العيد.. ووجدت قميص وبنطلون جديدين على سريري.. فضحكت؛ وجال بخاطري طيف سنوات الصبا، عندما كانت كسوتنا في العيد بيجامة ومعها حذاء كاوتش، وكأنها تقول أنت لسه مكبرتش يا ولد؛ أنا لسه بجبلك كسوة العيد.. وفي صباح اليوم التالي قبلت يدها وسألتها بمزاح إيه الحكاية يامه الفلوس جريت في ايديكي.. فابتسمت وانفجرت أساريرها.. الحمد لله اهو إيجار المحلات على ايراد النخل، والذي لم تعد تمتلك القوة والصحة مثل أيام زمان لتذهب لحصده، وتحويله إلى العجوة التي كانت تحتفظ بها في صفائح الجبنة لتدخرها لليالي الشتاء ونحن صغار، على فلوس محصول الشعير والقمح من أرض “الحصيدة” في منطقة “الحنوة ” في شرق العريش، وهي أرض ورث عن أبيها لا اعرفها حتى الآن لا أنا ولا اخوتي.. على فلوس المعاش.. فقد أصبح لها معاش بفضل الرئيس السادات، التي كانت تحبه من قلبها لسببين أولهما انتصاره، وعودة أولادها وأحفادها إليها بعد النصر، ومعاهدة السلام، والثاني انه اختصها وغيرها من الأرامل بمعاش كان يسمى معاش السادات.. وظلت الحجة وهيبة كذلك حتى عندما تزوجت وسكنت في ضاحية المساعيد، وهي تبعد حوالي عشرة كيلو مترات عن بيتها في وسط المدينة، وكنت ضابط احتياط ، ظلت تحمل ما لذ وطاب، ومعها حفيدها هيثم، وهو الأكثر حظا بين كل أحفادها، وقد ورثنا أنا وأولادي حبها له، حيث كان يصطحبها في رحلتها حتى تصل إليَ.. هكذا قلب الأم، يحملك حتى آخر يوم، ولا ينقطع عن العطاء والدعاء، ومهما كبرت فأنت صغير؛ ومهما ربحت فلا مانع من منحك المزيد..
ومن النوادر التي لا أنساها، أنني عندما قررت شراء أول سيارة بعد أن افتتحت عيادتي بسنوات، وجدتها تدس في يدي لفافة بها ما كانت تدخره في دفتر التوفير الخاص بها، والذي مازلت احتفظ به إلى الآن، فهكذا هي الأم؛ عطاء بلا حدود، ودون انتظار لأي مردود.. ولأنها كانت بالنسبة لي هي الأم والأب؛ فقد كانت تحس نحوي بمسؤولية تاريخية.. وعندما اشتد عليها المرض وأنا في بعثة بالولايات المتحدة، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، قالت لأختي “ما تخفيش أنا مش هموت إلا لما يرجع صلاح واطمن عليه”، وقد كان؛ وفاضت الروح إلى بارئها بعد عودتي بأسابيع قليلة، وكأنها كانت معلقة بي..
فيا من أسعدك ربك بوجودها في حياتك، فانظر إليها فالنظر إلى الوالدين عبادة، وكأنك تنظر إلى الكعبة التي كرمها رب العزة.. وان كانت بعيدة فأوصلها، واسأل عليها، وان كنت مثلي فادعوا لها بالرحمة.. وبعد سويعات ستستمع للأغنية الخالدة التي أبدعها حسين السيد أما بصوت ملحنها عبد الوهاب أو بصوت فايزة احمد.. ست الحبايب .. وسوف تهديها بعض الورود أو الهدايا أو سترسل إليها قبلة عبر الأثير؛ أن كنت قد كتبت عليك الأيام غربة.. أما أن كنت قد فقدتها؛ قطعا سوف تتحشرج الكلمات في حلقك أو تنساب الدموع على خديك، ولا أخفيك أنها قد حدثت بالفعل، وأنا أسطر هذه الكلمات.