مقالات وآراء

من شُّرفة معلَّقة أحكي..

د. أماني فؤاد
ــ 1 ــ
في الأيام المقمرة، حين تشتد الرياح، وتنهمر زخات المطر؛، أقفز بغضبة الطبيعة وفورانها، أُطلِق صوتي في صيحات تمرُّدها، تنجرح يدي اليسرى وأنا أتسلق أسواري، أصوب وجهي للأعالي، وحدي والسماء، أفتح ذراعيَّ وصدري للرعد وومْض البرق؛ فتخف أثقالي وأعلو، عالقًا بالكون، أقبض على أطراف الزمن ثم أخطو إلى قلبه، أشرب الرياح فتقوِّسني، فيعاود جسدي التمدد كشراع عنيد، بين ضلوعي يمرق السحاب، فأصرخ أنا بعضكم الأعلى، أنا العارف، أنا الريح والبحار، أنا الذي تنزَّلتُ جبلًا ثم شففت إلى أن صرت نجمكم الأكبر، أنا الشجر والخفاء، التجلِّي أنا.
ــ 2 ــ
فوق التل الرملي البعيد، المطِل على البحر، وقف مشرِعًا جسده، لم أستوعب في البداية، يبدو مثل ذئاب المناطق القطبية، لونه أبيض يميل إلى (البيج)، في وجهه كبرياء، مرتكزًا بقائمتيه الأماميتين على الأرض شامخًا، في اليسرى جُرح غائر، لأطراف شَعر وجهه لون بُنيٌّ خفيف، يهبه جمالًا غامضًا ووسامة، نظر باتجاهي طويلا، كأنه ينظر في المرآة، ثم توارى خلف ساتر من البوص المتراص بكثافة على الربوة، لم يبدُ شريرًا، لكنه متأهبٌ بصورة ما، كأن له بعضَ ملامحي!
ــ 3 ــ
بجوار شجرة التين على السفح أقفُ، أبحث عنه ولا أجده، دقيقة ثم عاود ظهوره، صوَّب وجهته ناحيتي، في طرفة عين وجدته بجواري تماما، في عينيه نظرة ساخرة كمن خَبَرَ الحياة بعمق، لم أخف، قلقٌ ما ساورني، أعرفه كأنه أنا. في اتجاه البحر أسير، فيظل محاذيًا لي، يبعد مسافة مترين أو أقل.
أنظر إلى الأمواج الصاخبة القادمة نحوي؛ فهُيَّأ لي أني أراه، تلفَّتُّ حولي؛ فوجدته قد اختفى، مسحتْ عيناي الأفق تبحث عنه ثانية، كان يقف – أعلى تلٍّ رملي – يعوي، تومض عيناه بالشرر، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أرتَجُّ بعنف، أقع على الرمال من هَوْل ارتطامه بي، لقد نفذ من صدري كقذيفة، اكتشفت فراغي حين تحسست جسدي، تركني مجوفًا، أنا المنقسم والمتعدد، أنا السائر نحو المجهول.
ــ 4 ــ
أنا الرجُل الذي ترك اسمه وفراغًا شاسعًا، كلما سِرت خطوات ألحظ رأسي – التي عشت برفقتها زمنا – تمشي بجواري، ما ألمسه موزَّعًا ومتعدِّدًا، أنا الصمت والكلام، الموت والحياة، أنا الصحراء، الذئب واليمامة، عاندتني تلك اللحظة كثيرًا وعاندتها، الجنون أنا والتعقل، رعشة الحقيقة التي إن جاءت؛ صارت كل الأشياء ركامًا، أنا العجوز نصف الميت رغم الشباب، نصف العائش، حياتي عواء يشق الأرض ويثقب السماء، من وجهي طبعوا مئات الأقنعة.
ــ 5 ــ
في لحظة مباغتة سمعتها؛ صوت عميق مرعب كأن العالم يجهش من البكاء، نظر أحدنا إلى الآخَر، ربما أعرفها، كأنها الحقيقة، ربما حلمت بملامحها من قبل، بعد أقل من الثانية دَبَّ بيننا شرخ طويل، في أرض الربوة التي التقينا فوقها، لم نشعر بالجرف الذي اتسع بين أقدامنا الأربعة، وقفنا من هول الصوت، كل منا في جانب، ويتسع الشرخ، مدت يدها سريعا نحوي لتلتقطني، أنا المتعدد انفرطتُ، أنا الذئب ورجُل الفوران، أنا البحر والجبل الذي شفَّ إلى أن صار نجما، أنا الجرح في الجهة اليسرى لكل الأقنعة التي ارتديتُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى