انتخابات هولندا والمعاني المتفاوتة
لم تكن هولندا (17 مليون نسمة) لتثير أيّ اهتماممميّز في أوساط المعنيّين بالسياسة الأوروبية أو السياسةالدولية. فهي، فضلاً عن صغرها النسبي، بلد شديد الاستقرار سياسياً، لاتكاد حكوماته تتغير إلا على نحو طفيف. وفوق هذا، ولسنوات طويلة عُدت هولنداأكثر البلدان الغربية تسامحاً حيال اللاجئين والمهاجرين والمختلفين. ومنالمعروف أن جاليتين مسلمتين كبريين تقيمان فيها: واحدة إندونيسية تنبعهجرتها من حقيقة أن إندونيسيا سبق أن خضعت لاستعمار هولندي، وأخرى مغربيةتعاظم حجمها في العقود الأخيرة.
وقد درج بعض المنوّهين بالتسامح الهولندي علىالتذكير بالإصلاح الديني ودور إيراسموس الذي أسس مبكراً مرتكزات ذاكالتسامح الذي اشتهر به البلد.
منذ نحو من عقدين بدأ كل هذا يتغير. وفي 2004تحديداً حصل الحدث الذي هز المجتمع الهولندي. فقد اغتيل السينمائيوالتلفزيوني «ثيو فان غوغ» على يد المغربي- الهولندي محمد بوياري، بسبب فيلمأخرجه عن الصومال والنساء المسلمات، بالتعاون مع السياسية الصومالية «أيعانهيرسي علي».
قبل عامين على مقتل «فان غوغ»، اغتيل السياسيالعنصري «بيم فورتوين» على يد «فولكرت فان دير غراف». الأخير قال إبان محاكمته، إنه أقدم علىفعلته كي يوقف «فورتوين» عن استغلال المسلمين وتقديمهم ككباش محارق، وعناستهداف ضعفاء المجتمع الهولندي لأغراض سياسية.
باختصار، بدأت حرب الهوية تعصف بهولندا،وقد وصلت إلى ذروتها مع انشقاق غيرت فيلدرز عن حزبه المحافظ والتقليدي، «الحزبالشعبي للحرية والديمقراطية»، وتشكيله «حزب الحرية». وقد بات معروفاًأن فيلدرز هذا مجرد مغرد «تويتري» أكثر منه قائداً سياسياً أوصاحبأفكار رصينة. أما حزبه فيقوم على «برنامج» بالغ الارتجال والسطحيةمؤداهنقاط ثلاث: الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وإغلاق المساجد في هولندا،ومنعالقرآن!
لكنْ بعد التصويت لصالح «بريكسيت» في بريطانيا،ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، ظهرتمخاوف شرعية من أن تقع هولندا في براثن فيلدرز وحزبه الشعبوي- العنصري. فاحتمالكهذا كان كفيلاً بأن يرتب أسوأ العواقب، ليس بالنسبة إلى علاقاتهولندا بالعالم الإسلامي فحسب، ولا حتى بالهولنديين من ذويالأصول المسلمة وحدهم، بل أيضاً وأساساً في ما يخص أوروبا وخريطتهاالسياسية والاجتماعية.
ففي الأشهر المقبلة ستتجه الدولتان الأوروبيتانالأكبر، واللتان هما ركيزتا المشروع الأوروبي، أي فرنسا وألمانيا، إلىصناديق الاقتراع. والنتيجة التي تسفر عنها الانتخابات الهولندية لابد أنتؤثر في النتائج الفرنسية والألمانية: فكل فوز لغيرت فيلدرز سيترجم نفسهفوزاً لمارين لوبن ولجماعة «البديل من أجل ألمانيا»، وبالتالي تقويضاً للمشروع الأوروبي.
هولندا، لحسن الحظ،خيبت آمال المراهنين على حروب الهوية وانهيار المشروع الأوروبي، وإنجاء هذا مرفقاً بأثمان ثلاثة لابد من التنبه إليها في المستقبل.
فأولاً، هبطت قليلاً نسبة تأييد الحزب المحافظالحاكم (الحزب الشعبي) الذي يقوده مارك روتّيه. وهذا بمثابة جرس إنذار.
ثانياً، زادت قليلاًنسبة تأييد «حزب الحرية»، وهذا جرس إنذار آخر. وثالثاً، اضطر روتّيه، منأجل حرمان فيلدرز من استغلال التوتر الأخير مع تركيا، إلى اعتماد اللغةالشعبوية وبعض الإجراءات الأمنية القصوى.
وبمعنى آخر، صوتت أكثريةالهولنديين للحفاظ على الوضع القائم. إلا أن المتذمرين من الوضع القائمتزايدوا قليلاً. وموقف كهذا أنقذ العلاقات الهولندية- المسلمةكماترك آثاراً إيجابية على أوروبا. إلا أن الاكتفاء بالوضع القائم لايكفي:ألم تنشأ الشعبويّة الراديكالية وتتطور من رحم هذا الوضع القائم؟
لقد أكدت الانتخابات الأخيرة أن هولندا لا تزالبخير، إلا أنها أكدت أيضاً أن الشر يحدق بها. وأسوأ الخلاصات الاكتفاءبتهنئة النفس والقول إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.
* نقلا عن “الاتحاد“
لم تكن هولندا (17 مليون نسمة) لتثير أيّ اهتماممميّز في أوساط المعنيّين بالسياسة الأوروبية أو السياسةالدولية. فهي، فضلاً عن صغرها النسبي، بلد شديد الاستقرار سياسياً، لاتكاد حكوماته تتغير إلا على نحو طفيف. وفوق هذا، ولسنوات طويلة عُدت هولنداأكثر البلدان الغربية تسامحاً حيال اللاجئين والمهاجرين والمختلفين. ومنالمعروف أن جاليتين مسلمتين كبريين تقيمان فيها: واحدة إندونيسية تنبعهجرتها من حقيقة أن إندونيسيا سبق أن خضعت لاستعمار هولندي، وأخرى مغربيةتعاظم حجمها في العقود الأخيرة.
وقد درج بعض المنوّهين بالتسامح الهولندي علىالتذكير بالإصلاح الديني ودور إيراسموس الذي أسس مبكراً مرتكزات ذاكالتسامح الذي اشتهر به البلد.
منذ نحو من عقدين بدأ كل هذا يتغير. وفي 2004تحديداً حصل الحدث الذي هز المجتمع الهولندي. فقد اغتيل السينمائيوالتلفزيوني «ثيو فان غوغ» على يد المغربي- الهولندي محمد بوياري، بسبب فيلمأخرجه عن الصومال والنساء المسلمات، بالتعاون مع السياسية الصومالية «أيعانهيرسي علي».
قبل عامين على مقتل «فان غوغ»، اغتيل السياسيالعنصري «بيم فورتوين» على يد «فولكرت فان دير غراف». الأخير قال إبان محاكمته، إنه أقدم علىفعلته كي يوقف «فورتوين» عن استغلال المسلمين وتقديمهم ككباش محارق، وعناستهداف ضعفاء المجتمع الهولندي لأغراض سياسية.
باختصار، بدأت حرب الهوية تعصف بهولندا،وقد وصلت إلى ذروتها مع انشقاق غيرت فيلدرز عن حزبه المحافظ والتقليدي، «الحزبالشعبي للحرية والديمقراطية»، وتشكيله «حزب الحرية». وقد بات معروفاًأن فيلدرز هذا مجرد مغرد «تويتري» أكثر منه قائداً سياسياً أوصاحبأفكار رصينة. أما حزبه فيقوم على «برنامج» بالغ الارتجال والسطحيةمؤداهنقاط ثلاث: الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وإغلاق المساجد في هولندا،ومنعالقرآن!
لكنْ بعد التصويت لصالح «بريكسيت» في بريطانيا،ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة، ظهرتمخاوف شرعية من أن تقع هولندا في براثن فيلدرز وحزبه الشعبوي- العنصري. فاحتمالكهذا كان كفيلاً بأن يرتب أسوأ العواقب، ليس بالنسبة إلى علاقاتهولندا بالعالم الإسلامي فحسب، ولا حتى بالهولنديين من ذويالأصول المسلمة وحدهم، بل أيضاً وأساساً في ما يخص أوروبا وخريطتهاالسياسية والاجتماعية.
ففي الأشهر المقبلة ستتجه الدولتان الأوروبيتانالأكبر، واللتان هما ركيزتا المشروع الأوروبي، أي فرنسا وألمانيا، إلىصناديق الاقتراع. والنتيجة التي تسفر عنها الانتخابات الهولندية لابد أنتؤثر في النتائج الفرنسية والألمانية: فكل فوز لغيرت فيلدرز سيترجمنفسه فوزاً لمارين لوبن ولجماعة «البديل من أجل ألمانيا»، وبالتالي تقويضاً للمشروع الأوروبي.
هولندا، لحسن الحظ،خيبت آمال المراهنين على حروب الهوية وانهيار المشروع الأوروبي، وإنجاء هذا مرفقاً بأثمان ثلاثة لابد من التنبه إليها في المستقبل.
فأولاً، هبطت قليلاً نسبة تأييد الحزب المحافظالحاكم (الحزب الشعبي) الذي يقوده مارك روتّيه. وهذا بمثابة جرس إنذار.
ثانياً، زادت قليلاًنسبة تأييد «حزب الحرية»، وهذا جرس إنذار آخر. وثالثاً، اضطر روتّيه، منأجل حرمان فيلدرز من استغلال التوتر الأخير مع تركيا، إلى اعتماد اللغةالشعبوية وبعض الإجراءات الأمنية القصوى.
وبمعنى آخر، صوتت أكثريةالهولنديين للحفاظ على الوضع القائم. إلا أن المتذمرين من الوضع القائمتزايدوا قليلاً. وموقف كهذا أنقذ العلاقات الهولندية- المسلمةكماترك آثاراً إيجابية على أوروبا. إلا أن الاكتفاء بالوضع القائم لايكفي:ألم تنشأ الشعبويّة الراديكالية وتتطور من رحم هذا الوضع القائم؟
لقد أكدت الانتخابات الأخيرة أن هولندا لا تزالبخير، إلا أنها أكدت أيضاً أن الشر يحدق بها. وأسوأ الخلاصات الاكتفاءبتهنئة النفس والقول إنه ليس بالإمكان أفضل مما كان.
* نقلا عن “الاتحاد“