هولندا تعتذر عن ماضيها الاستعماري لإندونيسيا
جاء الاعتذار الهولندي غداة نشر دراسة شاملة وغير مسبوقة قامت بها ثلاث مؤسسات بحثية هولندية بتكليف من حكومتها، سعيا وراء إحقاق العدالة وتبييض صفحة البلاد، وورد فيها أن الجيش الهولندي تجاهل القوانين والقواعد المكتوبة وغير المكتوبة وأقدم على جرائم وأعمال قاسية، علما بأن لاهاي ظلت على مدى عقود تصر على أن جيشها تصرف على نحو سليم خلال استعمارها لما كان يعرف بـ “جزر الهند الشرقية الهولندية”، وفي أوقات الضغط عليها كانت تزعم أن قواتها قد تكون ارتكبت مخالفات بسبب الضعف والإحباط في مواجهة تكتيكات حرب العصابات التي لم يكن بإمكانها التعامل معها باستخدام الوسائل العسكرية العادية
لم يكن اعتذار مارك روتي هو الأول من نوعه، لكنه كان الأقوى والأوضح. إذ سبقه في عام 1968 قيام لاهاي بإصدار تقرير أقرت فيه بحصول تجاوزات عنيفة في إندونيسيا من قبل قواتها هناك، لكنها بررتها بأنها حدثت ردا على حرب عصابات وهجمات إرهابية تعرضت لها من الإندونيسيين. وفي عام 2013 أعرب السفير الهولندي في جاكرتا عن ندمه على المجازر التي ارتكبها جيش بلاده لسحق المقاومة ضد الحكم الاستعماري، خصوصا في جزيرتي جاوة وسولاويزي. وفي مارس 2020 قدم العاهل الهولندي الملك فيليم ألكسندر، أثناء زيارته الرسمية الأولى لجاكرتا، اعتذاره قائلا: “أود أن أعرب عن أسفي وأعتذر هنا عن العنف المفرط من جانب الهولنديين في تلك الأعوام. أنا أفعل ذلك مع وعي تام بأن آلام وحزن العائلات المتضررة سيستمر لأجيال”. وتلا حديث العاهل الهولندي عرض من لاهاي لدفع تعويضات بقيمة 5600 دولار لذوي كل طفل تسببت هولندا في مقتله، وهو المبلغ نفسه الذي حكمت به محكمة هولندية عام 2013 لكل أرملة من أرامل 431 رجلا ذبحهم مجندون هولنديون في إحدى قرى جاوه الغربية عام 1947
ما يعنينا في الاعتذار الهولندي الأخير في فبراير 2022 أنه فتح الباب للحديث المستفيض عن مبدأ “الاعتذار ما بعد الاستعمار”، وهي قضية شائكة ومعقدة ذات جوانب مختلفة. صحيح أن القرن الحالي شهد ظهور مراجعات من قبل بعض الدول الأوروبية لماضيها الاستعماري واعتذارات وتعويضات غير متوقعة للضحايا، بعد أن كان السائد في القرن الـ 20 هو خطاب الإنكار وإضفاء الشرعية على المبادئ الإمبريالية في مواجهة مطالبات بالاعتذار والتعويض عن جرائم ارتكبت في الماضي البعيد في سياق العلاقات بين المستعمَر والمستعمِر. لكن الصحيح أيضا هو أن بعض الاعتذارات كانت جزئية وغير شاملة، وبعضها الآخر غير مصحوب بالتعويضات، وبعضها الثالث مرفق بتبريرات مثل أن مرتكب الجرائم والفظائع لم يكن الدولة الاستعمارية بل مستوطنين أو منظمات مستقلة عنها. هذا فضلا عن الإشكالية التي يتعذر معها أن تعترف دولة ما بجرائمها كونها لم تكن قائمة بشكلها الحالي زمن وقوع تلك الجرائم
الأمر الآخر الذي يعنينا في سياق هذا الحديث هو أن الاعتذار الهولندي الأخير شرع الأبواب أمام إندونيسيين كثر للتساؤل عمن سيعوضهم عن الآلام والانتهاكات والمذابح التي ارتكبتها قواتهم الوطنية قبل وبعد الاستقلال عن هولندا، في إشارة إلى قيام مقاتلي الحرية بقتل نحو 6000 من الأوراسيين والملوكيين والأقليات الأخرى أثناء المرحلة الأولى من حرب الاستقلال، وإشارة أيضا إلى حملة الحكومة الانتقامية في الستينيات ضد الحزب الشيوعي الإندونيسي التي أودت بحياة ما لا يقل عن نصف مليون مواطن، وصولا إلى المجازر التي ارتكبتها حكومة الرئيس الأسبق الديكتاتور سوهارتو بحق أنصار الديمقراطية وبحق شعب تيمور الشرقية قبل أن ينجحوا في انتزاع استقلالهم عام 1999
والحقيقة أن ما شجع هؤلاء الإندونيسيين على نبش عذابات الماضي، ليس الاعتذار الهولندي وحده، وإنما أيضا حقيقة أن السرديات الإندونيسية عن فترة النضال من أجل الاستقلال والفترات اللاحقة من عمر الدولة الوطنية المستقلة متناثرة وغير شاملة ودقيقة. وهذا دفع كاتب عمود معروف مثل إندي بايونين للتعليق على الاعتذار الهولندي بقوله: “نحتاج أيضا إلى إعادة النظر في تاريخنا وإخراج جميع الهياكل العظمية من الخزانة”. بمعنى ضرورة الغوص عميقا في سائر الأحداث الدموية المؤسفة التي شهدتها إندونيسيا منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية حتى نجاح الشعب في إسقاط الديكتاتورية العسكرية عام 1998. المصدر : صحيفة الاقتصادية