أخبارمقالات وآراء

الحلم المفقود

ا.د.صلاح سلام يكتب الحلم المفقود

 

ابكي تحت الليالي والخوف ملو الضلوع قلبي يا بلاد غريبة بتنورها الدموع… لغاية هنا وكلام الابنودي خلص لما كان بيتكلم عن أحضان الحبايب ورميت نفسك في حضن سقاك الحضن حزن…لكن البكاء اليوم مختلف فالدموع تتحجر في الجفون وتأبى النزول وليتها تفعل لتغسل الاحزان ..فوراء كل صاروخ حكاية وتحت كل قذيفة تطلقها طائرات العدو الغاشم قصة وهناك اكثر من خمسين الف حكاية … فقد كانت دينا حكاية..هي ابنة صديقي ورفيق رحلة سنوات مضت اثناء الاحتلال الإسرائيلي كمال الدرة حيث كان شغلنا الشاغل هو الحديث الذي فرض نفسه ..كيف سوف نكمل تعليمنا في القاهرة بعد الثانوية العامة،؟ حيث السفر مع الصليب الأحمر والانقطاع عن الاهل طوال عام كامل اذ لابد ان نعمل بأقصى طاقة ممكنة لنوفر مصروفات العام…وكنا نتعكز على بعضنا البعض حتى يمر العام وكان حديثنا الشاغل هل سوف يأتي اليوم الذي نتزوج فيه من احببناهم في سنوات العمر الجميلة الحالمة والتي كانت ترسمها لنا أغاني عبد الحليم وافلامه ورومانسية عمر الشريف ورقة وعذوبة فاتن حمامة وابتسامة عيون وشفاه السندريلا سعاد حسني… فقد كانت احلامنا تسابق اعمارنا واذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد..فكم جلسنا نهيم تحت سفح هواء صيف شاطئ العريش حيث يخترق هواه العليل مسامات اجسامنا البريئة ويغوص في كهوف خلايانا فيختبئ بين طياتها ليظل يعيش فينا …تخرجنا وفرقتنا الأيام وتزوجنا ومنا من نال من احب في سنوات عمره الأولى ومنا من تعثر وصادفته الأيام بنصيب اخر وكان كمال ممن نال ما أراد وانجب صبيانا وبناتا وكان الحديث بيننا موصول برغم شقة المسافات سواء من الاحتلال حيث عاش مضطرا في غزة او ما بعده..وذات مساء هاتفني ليقول لي ان دينا ابنته قد فازت بمنحة لدراسة الطب في السودان بعد ان حصلت على مجموع عالي وفازت بمسابقة حفظ أجزاء من القرأن وكاد يطير فرحا بها فهي الوحيدة من بين أبنائه التي استطاعت ان تحقق حلمه وهي اصغر أبنائه…ودار بيننا حديث كما كان يدور بيننا في أوقات الشدة في السنوات العجاف حيث صعوبة الوضع والحياة في غزة وانه بقدر فرحته بدينا بقدر خوفه ان لا يستطيع ان يوفي لتكمل تعليمها ووقتها رأيت دموعه تسبق كلامه فقلت له لا تقلق يا عزيزي ستكمل دينا كليتها كما اكملنا نحن أتذكر كيف كنا نقتسم ما في جيوبنا؟..وعادت ضحكته الخجولة وقابلت دينا في القاهرة اتية من غزة ومغادرة الى السودان وكان اول لقاء لها بي وكنت على عجلة من امري ففي نفس اليوم كان ابني الأكبر يجري جراحة استئصال المرارة ..وكانت سبحان الله اقرب في الشبه الى اباها وسلمت علي بالأحضان وكأنها تعرفني منذ ولدت..واذكر كلماتها جبذا “حسيت فيك ريحة ابوي” وقالت ان ابي دائما كان يحكي لنا عن سنوات العريش والدراسة بالقاهرة وكان الحديث لا يخلو ابدا من سيرتك….وظلت طوال سنوات الدراسة على اتصال دائم بي فقد اعتبرتها ابنتي وخاصة انها دخلت نفس مجال عملي وكانت تطوي السنين وتحاول الا تسافر في الاجازات حتى توفر المصاريف وقد شاءت الاقدار ان يتحقق الامل وتجتاز دينا سنوات الدراسة وتحمل بكالوريوس الطب والجراحة وفي حديث تليفوني قالت لي اسمح لي ان اقطع تذكرة للقاهرة ثم الى غزة فقد اشتقت الى اهلي وسوف ادبر ثمن استخراج الشهادات فيما بعد حيث ستبدأ بعد اجازة قصيرة التدريب العملي لسنة الامتياز ثم تحصل بعد ذلك على ترخيص مزاولة المهنة وتبدأ مشوار الحياة العملية ثم التخصص .. ومن فرط حساسيتها وشدة ضغط الدراسة والغربة أصيبت بمرض السكر حيث انزعجت كثيرا من الاعراض وهي لم تزل طالبة في بكالوريوس الطب ولكن عامل الوراثة كان حاكما فقد كان جدها لأبيها ولامها من مرضى السكر وقد حاولت شد أزرها قدر ما استطيع وتحدثت الى احد اكبر أساتذة الغدد الصماء بالسودان الذي أحسن استقبالها وبدأ معها رحلة ضبط السكر وتهدأ روعها.. وكانت في تلك الايام قد استكملت حفظ القرأن مما خفف عنها صدمة المرض…وعادت دينا الى غزة لتبدأ سنة الامتياز في احضان والديها الذين طاروا الى السماء فرحا بها وانا كذلك شعرت ان هذه هي ابنتي التي لم انجبها فقد تعلقت بي وتعلقت بها..حيث انني لم ارزق ببنات…وقبل الحرب بأيام اخبرتني انها على وشك انهاء عام التدريب في نهاية فبراير القادم وسوف تبدأ في دراسة تخصص الامراض الجلدية كما أوصيتها وتتخصص في التجميل…ولكن القدر كان له راي اخر ..فقد اطفأت قنابل العدو الغاشم نور زهرة تتفتح..فقضت عليها وعلى اسرتها فادمت قلبي تلك الفتاة الصغيرة التي كانت لي بنتا وكنت لها ابا تخبه كما تحب كمال الذي انجبها..وكانت دائما تفتخر ان لها ابوان احداهما مهندس انجبها واخر طبيب رعاها…ماتت دينا قبل ان يكتمل حلمها…ماتت دينا قبل ان أرى ثمرة الكفاح تنضج…ماتت دينا ولم اراها واباها الحبيب..ماتوا بلا جنازة ولا كفن ماتت الزهرة اليانعة وتحجرت الدموع في المأااق وسقطت الإنسانية وهوت كل قوانين العدالة على اعتاب وطن يئن من ظلم انسان فاجر لأخيه الانسان المغبون وعند الله يلتقي الخصوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى